هذه مقدمة أولى لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وهو في مراحله الأولى، دعا إلى كتابتها دواع، من أهمها:
تشتمل هذه المقدمة على تمهيد يتناول الجهود السابقة في التأريخ اللغوي، و على عدة مباحث عن خصائص معجم الدوحة التاريخي للغة العربية: أولها في التعريف بهذا المعجم، وثانيها عن إعداد ببليوغرافيا المرحلة الأولى، وثالثها عن معضلة النص العربي ومسالك التحقيق، ورابعها عن بناء المدونة اللغوية ومصادرها، وخامسها عن مَنهجيَّة التّأْريخ لألفَاظِ المعْجم التّاريخيّ، وسادسها عن ترتيب المداخل في المعجم، وسابعها عن الإعداد للمعالجة المعجمية وبناء المداخل المعجمية، وثامنها عن منهجية المعالجة المعجمية وضوابطها، وتاسعها عن مسوغات القرارات العلميّة والمنهجية للمجلس العلمي للمعجم.
واستكمالًا لما ورد من معلومات في هذه المقدمة، فقد نُشر معها الدليل المعياري للمعالجة المعجمية والتحرير الذي يتضمن الضوابط المنهجية لبناء المداخل المعجمية للألفاظ، والقرارات العلمية التي أصدرها المجلس العلمي للمعجم في عدد من المسائل اللغوية والمنهجية. ولا شك في أن هذه المقدمة غير مكتملة في صورتها الحالية، وستعرف تحديثات كثيرة تواكب التطور الحاصل في المعجم.
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
المعجم التّاريخيّ للّغة العربيّة صنف من المعاجم اللّغويّة، يتميّز بتضمّنه "ذاكرة" كلّ لفظٍ من ألفاظ اللّغة العربيّة، تُسجِّلُ تاريخَ استعماله بدلالته الأولى، وتاريخَ تحوّلاته البنيويّة والدّلاليّة، وتحولات استعمالاته، مع توثيق تلك "الذّاكرة" بالنّصوص الّتي تشهد على صحّة المعلومات الواردة فيها.
انطلاقا من هذا التّحديد، نستخلص جملة من العناصر الأساسية التي تُشكّل هُويّة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، نوردها في الآتي:
يُقدِّم المعجم لكل لفظ من ألفاظ اللّغة العربيّة مدخلا معجميًّا يتضمّن المعلومات الآتية:
من الناحية المبدئية، لا يمكن أن نتحدث عن معجم تاريخي لأي لغة من اللغات ما لم تتوافر له الأسباب الضرورية الآتية:
وبالنظر إلى تاريخ اللغة العربية الممتد في الزمان والمكان، لم يكن ثمة مناص من تقسيم إجرائي شمل خمس مراحل زمنية، فكانت المرحلة الأولى من أقدم نص عربي موثق إلى العام 200ه. وتمتد المرحلة الثانية من 201 هـ إلى العام 500 هـ؛ بينما تمتد المرحلة الثالثة حتى عصرنا الراهن.
ولمفهوم المرحلة قيمة إجرائية فقط، إذ سرعان ما تُتجاوز بعد الانتقال إلى المرحلة الموالية؛ ذلك لأن بعضا من نصوص مرحلة ما قد يعود إلى مرحلة سابقة لتأخر التأليف أو التحقيق.
يبدأ إنتاج المداخل المعجمية بفهرسة الألفاظ الواردة في مدونة المرحلة مع ربطها بالسياقات المستعملة فيها وترتيبها ترتيبا تاريخيا، ثمّ جمع الألفاظ في حزم اشتقاقية بحسب الجذر الذي تنتمي إليه، وذلك لتحقيق هدفين اثنين:
ثمّ تخضع كل المواد المعالجة إلى المراجعة والتدقيق قبل أن تدفع إلى التحرير فمراقبة الجودة. وتعرض المواد المعجمية المحررة على المجلس العلمي للمعجم لاعتمادها وفق آليات محددة فتصبح بذلك قابلة للنشر الإلكتروني، فالورقي.
ميزته الأولى أنه سيكون حين اكتماله، أول معجم تاريخي وُضع للغة العربية على غير منوال سابق. فلئن تعددت محاولات إنجازه على نحو ما بيَّنّا في التمهيد، فإن أيّا من تلك المحاولات لم تنته بعرض مادة المعجم، أو جُلِّها، أو بعضِها، أو حتى نماذج منها، سوى المعروف مما أنجزه فيشر ونُسب- على خلاف- إلى مشروع معجم تاريخي للغة العربية.
وميزته الثانية أنه يُبنى انطلاقا من مدونة نصية صُمِّمت خصيصا له، جمعت النصوص العربية المطبوعة.
وميزته الثالثة أنه يشمل ألفاظ اللغة العربية المستعملة في النقوش والنصوص، حتى الألفاظ المشتقة اشتقاقا قياسيا كاسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما، ويعرضها مُوثِّقا كل لفظ بنص شاهد يدلّ على استعماله بمعانيه، مقرونا باسم مستعمله وتاريخ استعماله أو تاريخ وفاة مستعمله، مع توثيق مصدر النص.
وميزته الرابعة أنه يرجع باللفظ العربي إلى استعمالاته الأولى في النقوش متى توافر ذلك، ويُقدّم معلومات مهمة عن النقش الذي عُثر عليه فيه.
وميزته الخامسة أنه يربط ألفاظ اللغة العربية بنظيراتها في اللغات القديمة المنتمية إلى نفس العائلة اللغوية الواحدة، متى توافر ذلك.
وميزته السادسة أنه يرجع باللفظ العربي المقترض إلى أصله اللغوي، فارسيا أو يونانيا...
وميزته السابعة أنه يرصد المصطلحات في مجالاتها العلمية والمعرفية والفنية، على النحو الذي يرصد به الألفاظ.
وميزته الثامنة أنه يُعنى بالألفاظ المُستعملة في لغات العرب حتى إن لم تحمل معنى مغايرا كالألفاظ المتناوبة الحركات.
وميزته التاسعة أنه يُعنى بألفاظ القرآن الكريم بقراءاته المتواترة سواء حملت معنى جديدا أم لم تحمله.
وميزته العاشرة أنه يورد توسيما لكل لفظ عربي (اسم، مصدر، اسم فاعل، صفة مشبهة، فعل، لازم، متعدّ...).
من أهم خصائص هذا المعجم أنه:
لا يمكن لمعجم تاريخي للغة العربية إلا أن يكون مُقيّدا بحدود، أيا ما كان المجهود المبذول في إنجازه لأسباب موضوعية يصعب تجاوزها، منها:
إن بناء مدخل معجمي للفظ واحد من الألفاظ يحتاج إلى التأكّد من صحة اللفظ في سياقه ونصه، والتأكد من صحة نسبة النص إلى مؤلفه أو قائله، والتأكّد من تاريخه. وغالباً ما يستلزم ذلك ترجيح رواية على رواية، أو قول على قول، أو تحقيق على تحقيق. ثم يأتي بعد كل ذلك استخلاص معنى اللفظ داخل سياقه ونصه وصياغة تعريف له وفق ضوابط التعريف المتفق عليها.
يُضاف إلى ذلك أن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية في مرحلته الأولى محدود في مادته المقتصرة على النقوش والنصوص الممتدة إلى العام 200 هـ. وينبغي استحضار كل ذلك في استعراض مداخله المعجمية التي ستعرف تغيرات في الألفاظ والمعاني في المراحل اللاحقة التي بدأ مشروع المعجم بإعداد مدونتها اللغوية.
نظرا لانبثاث نصوص اللغة العربية في الزمان والمكان والمعارف، وتعذر العمل فورا على مدونة لغوية لقرابة عشرين قرنا من الزمن، رأت الهيئة التنفيذية تقسيم المدونة إلى مراحل دون اعتبار لأي معطى تاريخيا كان أو سياسيا أو ثقافيا، وعدّت ذلك تحديدا إجرائيا لا يؤثر في المخرج النهائي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية.
وقد رافق هذا التقسيم، الإعداد المرحلي للببليوغرافيا والمدونة النصية الخاصة بكل مرحلة، وقد امتدت المرحلة الأولى منها، من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الثاني للهجرة.
لا أحد ينكر الأهمية القصوى لإعداد ببليوغرافيا بمواصفات علمية دقيقة، تخدم المعجم التاريخي، وتؤسس مدونته النصية، ولا أحد ينكر الصعوبات المنهجية التي تعترض السبيل خاصة في مرحلة تاريخية يشوبها كثير من الغموض والإبهام، نظرا لبعد الزمن والإغراق في التاريخ، واعتماد الرواية الشفوية في النقل، وتَعَرُّض النصوص للتحريف والتصحيف، والتلفيق والوضع، ونحل النصوص إلى غير أصحابها...فضلا عن فساد كثير من النصوص بسبب عبث النساخ قديما، والمحققين غير الأكفاء حديثا، وانتشار الطبعات التجارية...
من أجل ذلك، وضعت الهيئة التنفيذية خطة علمية لجمع نصوص اللغة العربية الواقعة في المرحلة الأولى، وأسندت مهمة الإنجاز لنخبة من العلماء المحققين من أعضاء المجلس العلمي، بعد أن أُقِرَّ استبعاد المخطوط، لصعوبة الحصول عليه، والتعامل معه، والاكتفاء بالمطبوع من المصادر، وقد مر الإعداد بالمراحل الآتية:
بعد جهد كبير حُصرت مصادر مدوَّنة المرحلة الأولى من مراحل المعجم العربي التاريخي إلى نهاية القرن الثاني الهجري حصرا أوليا في 772عنوانًا موزّعة حسب الموضوعات على الأبواب والفصول الآتية:
(ويشتمل على 144 عنوانًا) موزعة على ثلاثة فروع:
(ويشتمل على 500 عنوانٍ) موزعة على أربعة فروع:
ويشتمل على 46 عنوانا موزعة على ثلاثة فروع:
ويشتمل على 82 عنوانا موزعة على فرعين اثنين:
ولا بد من الإشارة إلى أنَّ الفترةَ الزمنية المحدَّدة في إعداد هذه البيبليوغرافيا: من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري، إنما يُعنى فيها بالنصوص الأصلية دون غيرها. أما كتب الاختيارات الشعرية مثلا، باستثناء المفضَّليات التي صنَعها المفضل الضبيّ (ت178هـ)، فقد جمعها ووثَّقها وحقَّقها رواةٌ وعلماء من القرن الثالث فما بعده، كالأصمعيات، وحَماسَتَي أبي تمام الصغرى والكبرى، وحماسة البحتري، وديوان الهُذليّين، وجمهرة أشعار العرب، ومنتهى الطلب من أشعار العرب...
ولذلك كان المعتبرُ هو النظر إلى النصوص الأصلية المضمَّنَة في هذه الدواوين والاختيارات، وعصورِ أصحابها من الشعراء، لا إلى عصور صانعيها وجامعيها ومحقّقيها المتأخرين. فما يزال الباحثون والدارسون المشتغلون بالتراث شغوفين بجمع أشعار الجاهليين والإسلاميين وصُنع دواوينهم إلى يوم الناس هذا. على أننا لم ندخل في هذه البيبليوغرافيا إلا المجاميع والاختيارات التي تقتصر على أشعار الجاهليّين والإسلاميّين وبداية العصر العباسي إلى نهاية القرن الثاني.
وإذا كان عدد الدواوين والنصوص الشعرية يمثل نحو ثلثي عناوين هذه القائمة، فذلك لا يعني أننا أحطنا بكل النصوص الشعرية للمرحلة الأولى، وإنما اقتصرنا بالأساس على الشعراء الذين لهم دواوين مجموعة ومطبوعة، وألحقنا بهم فئة أخرى ممن وردت أشعارُهم في المجاميع والاختيارات والمصادر التي وردت ضمن قائمتنا هذه. ولم نهتم في هذه المرحلة بالنصوص المجهولة القائل، كما لم نرَ فائدةً في تتبّع كل أسماء الشعراء الذين ليست لهم دواوين مصنوعة ومعروفة، لأن كثيراً من أشعار هؤلاء سنجدها ضمن هذا النوع من المجاميع وكتب الاختيارات الشعرية التي اشتملت عليها القائمة الحالية. أما الجزء الآخر المتبقّي، فسيأتي بدوره ضمن المجاميع ومصادر الشعر العربي الأخرى التي ستدخل ضمن القوائم الخاصة بمراحل العصور التالية.
بعد الانتهاء من تحديد مصادر المرحلة الأولى، من قبل لجنتين، دُمج العملان في قائمة موحدة عرضت على أنظار المجلس العلمي، فخضعت للتحقيق والتدقيق والمراجعة والإضافة والحذف. وقد أسفرت عملية المراجعة عن الآتي:
استقرت الببليوغرافيا، بعد المراجعات المتتابعة، بالبيانات والمعلومات الآتية:
من أجل بناء مدونة لغوية شاملة، لا تغفل شيئا من نصوص العربية المؤسسة، ارتأى القائمون على المعجم أن تكون النقوش ركنا مكملا لأركانه؛ إذ تُعَدّ النقوش مصدرًا معجميًّا مهمًّا يرفد معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة بمادّة غزيرة تُسهم في جلاء الخلفيّات التاريخيّة لكثير من المفردات. ويزيد من أهمّيّة النقوش أن كثيرًا من موادّها لم يَشُقَّ طريقَه إلى المعاجم العربيّة.
تقع المادّة النقشيّة المستخدَمة في معجمنا هذا في صنفين كبيرين: أوّلهما النقوش العربيّة الشماليّة العتيقة، التي اصطُلح على تسميتها بِـ Ancient North Arabian وثانيهما النقوش العربيّة القديمة، أي ما يُسمّى: Old Arabic.
تُنبئنا النقوش والمخربشات على الواجهات الصخريّة، المكتشَفة في المناطق الشماليّة من الجزيرة العربيّة، بحَراك حضاريّ لم يحظَ لدى المؤرّخين واللغويّين العرب القدماء والمُحْدَثين بالاهتمام الذي يستحقّه. ومعظم هذه النقوش يعود إلى الألف الأوّل قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلاديّ تقريبًا. وقد صنّف العلماء هذه النقوش في مجموعات تبعًا لأنماط الخطّ المستخدمة في كتابتها أو بحسب مناطق انتشارها أو بعض مميّزاتها الصرفيّة والنحويّة والأسلوبيّة. وتندرج تحت هذا التصنيف النقوشُ الصفويّة والثموديّة بأقسامها المختلفة التي سيأتي بيانُها.
والنقوش الصفويّة منسوبةٌ إلى "الصَّفا" في منطقة الحرّة جنوب شرق دمشق، ثم أُطلقت هذه التسمية على سائر النقوش المنتشرة في المناطق الجنوبيّة الشرقيّة منها. وتمثّل الباديةُ الشماليّة الشرقيّة من أراضي الأردن الحالي ما يزيد على سبعين بالمئة من الصحراء البركانيّة المسمّاة بالحَرّة في منطقة بلاد الشام، وقد شكّلت الصخورُ المنتشرة فيها أسطحًا مثاليّة لكتابة تلك النقوش. ويُذكر أنَّه عُثر على نقوش صفويّة خارج المناطق المذكورة، كتدمر في سوريا، ولبنان، ووادي حوران غرب العراق، وبومبيي في جنوب إيطاليا. ويغلب على هذه النصوص المكتوبة بلغة قريبة من عربيّة العصر الجاهليّ، الطابعُ البدويّ القائم على الترحال والتنقّل الموسميّ من منطقة الحرّة في شمال شرق الأردن عبر سوريا وغرب العراق وشمال السعودية، والوقوف على أطلال الأحبّة، واستذكار الموتى، وغيرها من الموضوعات المتّصلة بالحياة اليوميّة، علمًا بأننا لم نعثر حتى الآن على نقوش تحوي نصوصًا أدبيّة أو تاريخيّة طويلة. وتعود النقوش الصفويّة بمجملها إلى ما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الرابع الميلاديّ، وثمّة ما يزيد على خمسة وعشرين ألف نقش ممّا وُثّق من خلال المسوحات والمكتشفات التي بدأت منذ عام 1857، وإن بقي كثير منها غير منشور.
أمّا النقوش المسمّاة ثموديّة فقد كان تصنيفها مَحَطَّ اهتمام الباحثين منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان في الغالب تقسيمًا جغرافيًّا بحسب مواقع انتشارها. وتشتمل الثموديّة على النقوش التَّيْماويّة والحسماويّة والدادانيّة/اللحيانيّة. فالنقوش التَّيْماويّة منسوبة إلى تَيْماء في شمال غرب المملكة العربيّة السعوديّة، وهي تُعرف أيضًا بالثموديّة A. ولعلّ هذه النقوش من أقدم النقوش العربيّة الشماليّة العتيقة، وقد وصلَنا أغلبُها موثِّقًا لبعض الأحداث التي مرّت على منطقة تَيْماء وما حولها، ومن ذلك إقامة الملك البابليّ (نبونيد) فيها في القرن السادس قبل الميلاد. أما النقوش الحسماويّة فهي التي كانت تُعرف سابقًا بالنقوش التبوكيّة الثموديّة، أو الثموديّة E، كما أنّ منها أنواعًا أخرى كالنقوش الثموديّة B الممتدّة بين مدائن صالح وتَيْماء، والنقوش الثموديّة C، وهي من منطقة غرب حائل، إلخ. وتُعَدّ النقوش الحسماويّة أهمّ الأنماط الثموديّة وأكبرها عددًا، وهي تنتشر من منطقة باير في جنوب شرق الأردن حتى الحدود الأردنيّة-السعوديّة تقريبًا، ويتركّز أكثرها في منطقة وادي رمّ، ويرجع تاريخُها إلى النصف الثاني من الألف الأوّل قبل الميلاد وحتى القرنين الأوّلين للميلاد. وأما النقوش الدادانيّة/اللحيانيّة فموطنها دادان التي تُعرف اليوم بالعُلا، وهي واحة عظيمة في الشمال الغربيّ للجزيرة على طريق التجارة الواصل بين جنوب الجزيرة وبلاد الشام، وكانت مركزًا لمملكتَيْ دادان ولحيان؛ وهي ترجع بمجملها إلى الألف الأوّل قبل الميلاد.
يُطلق هذا الاسم على مجموعة من النقوش العائدة إلى فترة ما قبل الإسلام، وهي من أرومة اللغات الساميّة، وتحديدًا اللغات العربيّة الشماليّة التي تندرج في إطارها العربيّة القديمة، والكلاسيكيّة، والوسيطة، علاوةً على اللهجات المحكيّة القديمة والمعاصرة. وقد كُتب أقدم النقوش العربيّة القديمة بالخطّ السبئيّ في القرن الثالث قبل الميلاد، وعُثر عليه في نجران جنوب المملكة العربيّة السعوديّة. وكذلك وصلتنا نقوش تشهد على مرحلة انتقاليّة كُتبت فيها العربيّة بالخطّ النبطيّ الآراميّ الذي تطوّر عنه الخطّ العربيّ. ومن الصعوبات التي يواجهها دارسو النقوش العربيّة القديمة من منتصف القرن الأوّل قبل الميلاد حتى القرن الرابع للميلاد مُعاصرتُها لعدد من لهجات النقوش العربيّة الشماليّة العتيقة، إذ رغم وجود فوارق واضحة بين المجموعتين قد لا يكون من الميسور في بعض الحالات التمييز الدقيق بينهما نظرًا لتقاربهما، ولأن طبيعة كتابتهما قد لا تُسعفنا على الحسم في نطق المفردات، ولا سيّما لخلوّ أنظمة الكتابة من الصوائت القصيرة.
ومن الأمثلة على النقوش العربيّة القديمة نصوصٌ كُتبت بالخطّ السبئيّ، وعُثر عليها في قرية (الفاو) عند الحدود الشماليّة الغربيّة للربع الخالي. وقد كان للفاو حضور ثقافيّ بارز في الفترة الممتدّة من القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد حتى القرن الخامس للميلاد، وكانت "عاصمة" لقبائل قحطان ومَذْحِج وكِنْدة العربيّة التي دعا سادتُها أنفسَهم "ملوكًا"، إلا أنها كانت واقعة تحت الأثر الثقافيّ لمملكة سبأ. ومن النقوش العربيّة القديمة ما هو مكتوب بالخطّ النبطيّ، ومن أشهر تلك النقوش نقش (عين عَبَدة) الذي قد يرجع إلى ما قبل العام 150 للميلاد، والذي يتكوّن من ستة أسطر، الرابع والخامس منها مكتوبان باللغة العربيّة القديمة، ولهما أهميّة بلاغيّة كبيرة، بل من الباحثين من يجزم أنهما من الأمثلة المبكرة على الشعر العربيّ. ومن أمثلة هذه النقوش أيضًا نقش (النّمارة) في صحراء سوريا الجنوبيّة، وهو مكتوب بالخط النبطيّ، ويعود تاريخه إلى العام 328 للميلاد؛ ومخربشات جبل (أم جديد) بالقرب من العُلا، ونقش جبل (رمّ)، ونقش (زَبَد)، ونقش جبل (أُسَيْس)، ونقش (أمّ الجِمال).
وإلى ذلك ثمّة مجموعة من النقوش تمتزج فيها العربيّة القديمة بلغات أخرى. ولعل كَتَبَة هذه النقوش هم من الناطقين بالعربيّة، ولذا استعانوا بمفردات عربيّة في محاولتهم كتابةَ نصّ بلغة غير عربيّة. ونضرب مثلاً على ذلك النقش الموسوم بـ JSNab17 وهو نقش جنائزيّ من (الحِجْر) أو (مدائن صالح) الواقعة شماليّ العُلا، ويعود تاريخه إلى العام 267 للميلاد، ويبدو أن كاتبه كان يحاول الكتابة بالآراميّة النبطيّة إلا أنه استعان بالعربيّة ليكتب ما لم يستطع التعبير عنه بالآراميّة.
وقد تضمنت القائمة النهائية للنقوش قرابة 70 عنوانا، أحيل أمر تدقيقها، ومعالجة ألفاظها إلى لجنة من الخبراء في الميدان.
لما كان العمل في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية يعتمد أساسًا على المدوَّنة التي تجمع نصوص اللغة، كان لا بد من تخيُّر أوثق النشرات وأدقها، وهو أمر يتطلب الكثير من الرصد والدراسة والتمحيص بالإضافة إلى الخبرة والمعرفة والاطلاع، ولذلك:
وهذه أهم معايير التفاضل الإيجابية، التي ترقى بالكتاب المحقق، وتجعله معتمدًا:
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه المعايير ليست حاسمة في عدد غير قليل من المنشورات... على أننا اعتمدنا في بعض الكتب على عدد من الطبعات، على سبيل الاحتياط، بغيةَ الوصول إلى مدونةٍ جامعةٍ تشتمل على كل تراث المرحلة المطبوع، وعدم التفريط في أي جزء منه.
مع الإشارة إلى أنَّ كل نصٍّ من هذه النصوص -برغم اصطفائها -يخضع لتمحيص المعالِج المعجمي تحقيقًا، وتدقيقًا، وضبطًا، وتحريًّا لصحة الوزن، وما إلى ذلك، مما يقلِّل من احتمالات الخطأ أو الزلل.
يُمثِّلُ بناءُ المُدوَّنة اللُّغويَّة أولى مراحل الصِّناعة المُعجميَّة؛ وتُعنى هذه المرحلة بتوفير النُّصُوص الَّتي سيُعتمَدُ عليها في استخلاص مادَّة المُعجم. ولمَّا كانَ المأمولُ مِن المُعجَم التَّاريخِيّ المنشود أن يكونَ دِيوانًا للعَرَبِيَّة، يُؤَرِّخُ لألفاظِها ومعانِيها، ويُبَيِّن ما طرأ على تلك الألفاظ من تَحوُّلٍ وتغيُّرٍ، كان لا بُدَّ لمُدَوَّنة هذا المُعجَم أن تَضُمَّ قدرًا وافِيًا مِن النُّصُوص الَّتي تعكِسُ واقِعَ اللُّغة العَرَبِيَّة عبرَ تاريخِها المديد، وفي بيئاتِها ومراكِزِها الثَّقافِيَّةِ والحضارِيَّة الَّتي شَهِدَت مراحِلَ نُمُوِّها وتَطَوُّرِها.
وكان من أهم الأسباب التي أعاقت الشروع الفعلي في إعداد معجم تاريخي للغة العربية: الافتقارُ إلى رؤيةٍ واضحةٍ لحصر التُّراث العربيّ المُدَوَّن عبرَ العُصُور والأمكنة، والإشكالاتُ الَّتي تواجه صُنَّاعَ المُعجم أثناءَ بنائها. وأبرزُ هذه الاشكالات الامتدادُ الزمني لحقبة الرواية -وهو امتدادٌ ليس له نظيرٌ في اللغات التي أنجزتْ معاجمَها التاريخية-، وتعدُّدُ مصادر التراث المعرفي العربي بين المطبوعات والمخطوطات والنقوش والبرديات، فضلا عن أنَّ قدرًا كبيرًا من هذا التُّراث ما يزالُ مخطوطًا أو مجهولًا.
تجاوزا لهذه العقبات، اتجهت الهيئة التنفيذية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية إلى بناء مُدوَّنةٍ لُغويَّةٍ مُحَوسَبةٍ، وفقَ ما يتَّفقُ مع طبيعة اللُّغة العربيَّة ونظامها المُعجميّ من ناحية، وما يُحقِّقُ أهدافَ المُعجم المنشود ويُلبِّي حاجةَ مُستخدميه من ناحيةٍ أخرى؛ فجمعت كل نصوص العربية في النقوش وفي المطبوعات منذ أول ظهورٍ لها إلى نهاية القرن الثاني للهجرة. وسعيًا إلى إخراج المُدوَّنة اللُّغَويَّة في صُورةٍ تسمحُ بمُعالجتها وفقَ ما يُحقِّقُ أهدافَ المُعجم، فقد قامَت منهجيَّةُ البناء على خمس مراحلَ أساسيَّة، هي: (الجمع، والتَّصنيف، والتَّحرير، والتَّأريخ، والتَّرتيب). وبيانُ ذلكَ على النَّحو الآتي:
نظرًا لطبيعة الحقبة الزَّمنيَّة الَّتي تُمثِّلُها مُدوَّنةُ المرحلة الأولى – إذ يُعَوَّلُ عليها في تسجيل أوَّل استعمالٍ مُدَوَّنٍ لمباني العربيَّة ومعانيها، وإثبات ما طرأَ على هذه المباني والمعاني من التَّغَيُّر والتَّطوُّر – فقد استدعى جمعُ مادَّتها إجراءَ حَصرٍ للتُّراث العربيّ المكتوب في هذه الحِقبة، وجمعَهُ من أمَّهات الكُتُب العربيَّة في مُختلف ميادين المَعرفة.
وقامَت منهجيَّةُ الجمع على الأسُس الآتية:
بنيت مُدوَّنةُ المرحلة الأولى على الببليوغرافيا التي تقدمت الإشارة إليها، وقد تحولت من عناوين إلى وثائق بدل العناوين، نظرا لطبيعة المرحلة، وتضمنت: 1925 وثيقة. وأعيد تصنيف هذه الوثائقُ إلى خمس مجموعاتٍ، هي:
بعدَ جمع مادَّة المُدوَّنة وتصنيفِها، كانَ علينا أن نُحرِّرَها على النَّحو الَّذي يسمحُ للآلة بالتَّحكُّم في بياناتِها بالإضافة أو الحَذف أو التَّعديل. لهذا، قُمنا بتحويل نُصُوص المُدوَّنة من صُورتِها الورقيَّة إلى صُورةٍ رَقميَّةٍ مُحَوسَبة. وقُمنا بتحرير مادَّة المُدوَّنة عبرَ ثلاثِ وسائل:
وتتمَّةً لتحرير مادَّة المُدَوَّنة، فقد أعقَبنا إدخالَ النُّصُوص بمجموعةٍ من الإجراءات الَّتي تضمنُ صلاحيَّةَ المادَّة المُدخَلة للمُعالجة. وتمثَّلت هذه الإجراءاتُ فيما يأتي:
تُغطِّي المُدوَّنةُ اللُّغويَّةُ للمرحلة الأولى من مراحل المعجم حِقبةً تاريخيَّة تمتدُّ إلى ما يقرب من سبعة قُرون. وفي إطار السَّعي إلى الإفادة من المُدَوَّنة في استخلاص المعلومات التَّاريخيَّة للمباني والمعاني، فقد وُضِعَت منهجيَّةٌ لتأريخ وثائق المُدوَّنة.
وقامَت هذه المنهجيَّة على الأسُس الآتية:
تنوَّعَت وثائقُ المُدوَّنة بينَ ثلاثة أصناف:
ومُراعاةً لهذا التَّصنيف، فقد رُتِّبَت وثائق المُدوَّنة اللُّغويَّة تاريخيًّا من الأقدم إلى الأحدث، في إطار الحِقبة الزَّمنيَّة؛ ورُوعيَ في منهجيَّة ترتيب الوثائق ما يأتي:
مَثَّلَ بناءُ المُدوَّنة اللُّغويَّة تحدِّيًا كبيرًا للقائمين على المُعجم، نظرًا لجدَّة استخدام المُدوَّنات اللُّغويَّة في الصِّناعة المُعجميَّة العربيَّة. ومع هذا، فقد كانَ التَّحدِّي الأكبر في إخضاع هذه المُدوَّنة لمجموعة العمليَّات (المُعالَجات) الَّتي تُؤدِّي إلى استخلاص مادَّة المُعجم على النَّحو الَّذي تتحقَّقُ معهُ غاية الصِّناعة المُعجميَّة. وسعيًا إلى هذا، فقد خَضَعت المُدوَّنةُ اللُّغَويَّة لمُعالَجةٍ حاسوبيَّة، بهدف هيكلة المُفرَدات والسِّياقات وتيسير تحليل بياناتِها؛ أعقَبَتها مُعالَجةٌ مُعجميَّة، بهدف استخلاص مادَّة المُعجم وتهيئتِها وضبطِها وتحريرِها. وبيانُ هذا على النَّحو الآتي:
وهُوَ إجراءٌ حاسُوبيّ، يهدفُ إلى تحويل مادَّة المُدوَّنة من صُورتِها الأوَّليَّة النَّاتجة عن تحريرِها إلى صُورةٍ توصيفيَّة تُمَكِّنُ الآلةَ من قراءتِها وتحليلِها. ولأنَّ العربيَّةَ تتمتَّعُ بنظامٍ كتابيٍّ خاصّ بمحارفِها، فقد تمَّ ترميزُ وثائق المُدوَّنة بصيغةٍ مُوَحَّدة، هي صيغة التَّرميز ( CP-1256) الَّتي تدعمُ الألفبائيَّة العربيَّة، وتُوَجِّهُ الآلةَ إلى فهم بنية اللُّغة وتعيين أساليب مُعالَجَتِها.
وهي عمليَّةٌ تمهيديَّة للمُعالَجة المُعجميَّة؛ حيثُ تُعنى بحصر مُفرَدات النُّصُوص في المُدوَّنة اللُّغويَّة وإحصائها واستخلاص السِّياقات الَّتي تردُ فيها كُلُّ مُفرَدةٍ على حِدة. وقد خَضَعَت المُدَوَّنةُ للفهرسة الآليَّة الألفبائيَّة، لتحقيق ثلاث غايات:
وهُوَ إجراءٌ حاسُوبيٌّ مُتمِّمٌ للفهرسة الآليَّة، يهدفُ إلى استرداد جُذُور المُفرَدات وفُرُوعِها وتعيين المعاني الوظيفيَّة الصَّرفيَّة [البِنَويَّة]. ونظرًا لقيام النِّظام المُعجميّ العربيّ على التَّرتيب الجذريّ للمداخل، فقد عُولِجَت نُصُوصُ المُدوَّنة اللُّغويَّة صرفيًّا، بعدَ إخضاعِها للفهرسة الآليَّة. وساعَدَت هذه المُعالَجة على تعيين المداخل [الَّتي تُعَبِّرُ عنها الجُذُور] والوحدات المُعجميَّة [الَّتي تُعَبِّرُ عنها الفُرُوع]؛ كما ساعَدَت على التَّوسيم الصَّرفيّ للمُفرَدات. وإتمامًا للمُعالَجة الحاسُوبيَّة، فقد وُضِعَت مُخرَجاتُ الفهرسة الآليَّة والتَّحليل الصَّرفيّ في مِنَصَّة [بيئة عمل حاسُوبيَّة]، تسمحُ بالمُعالَجة المُعجميَّة للنُّصُوص، على مُستوى المباني والمعاني.
تُنجِزُ الآلةُ قدرًا من العمليَّات الَّتي تُوفِّرُ الوقتَ والجُهدَ على المُعالجين والمُحرِّرين؛ لكنَّ مُخرَجاتها تظلُّ في حاجةٍ إلى مُعالَجةٍ من نوعٍ خاصّ، يُعَوَّلُ فيها على المهارة اللُّغويَّة من ناحية، وفهم معايير الصِّناعة المُعجميَّة من ناحيةٍ أخرى. ولأنَّنا ننشُدُ في المُعجم التَّاريخيّ أن يكونَ تعبيرًا حقيقيًّا عن واقع العربيَّة عبرَ تاريخِها، فقد خَضَعت المُدوَّنةُ اللُّغويَّةُ – بعدَ مُعالجتِها حاسوبيًّا – للمُعالَجة المُعجميَّة عبرَ ثلاثِ مراحلَ أساسيَّة. وبيانُها على النَّحو الآتي:
هي مرحلةُ بناء الهيكل الخارجيّ لمُفرَدات المُعجم؛ وتمَّت عبرَ مَرحَلَتَين:
وتنوَّعَت أشكالُ الفُرُوع لتشمل:
ثمَّةَ العديدُ من النُّصُوص الَّتي يحومُ الغُمُوضُ حولَها، سواءٌ من حيثُ نسبتُها إلى أحدٍ بعَينِه، أو من حيثُ انتماؤُها إلى الحِقبة الزَّمنيَّة. ولأنَّ المُعالَجَةَ المُعجميَّةَ لمادَّة المُدَوَّنة تستدعي التَّأكُّدَ من صِحَّة النُّصُوص ونسبتِها، فقد وَضَعنا "ببليوغرافيا مصادر المُدوَّنة" لتكونَ قاعدةَ بياناتٍ تحوي المعلومات الببليوغرافيَّة الكاملة لمصـادر المُدوَّنة، وأرفَقنا بها "المكتبة المرجعيَّة" الَّتي تحوي مُتُونَ هذه المصادر في صُورتِها الرَّقميَّة المُصُوَّرة عن الأصول المطبوعة. وقامَت منهجيَّةُ بناء البيبليوغرافيا والمكتبة المرجعيَّة على الأسُس الآتية:
حرصًا على التدقيق والتوثيق، بنيت مكتبة مرجعية، يرجع إليها المعالجون المعجميون لتوثيق النصوص وضبطها عند الحاجة، وقد ألحقت بالوسائل المساعدة في المنصة الحاسوبية، وقد جاءت على الهيئة الآتية:
وقد اعترضت بناء المدونة اللغوية، فضلًا عن هذه الصعوبات، جملةٌ من الإشكاليات، المرتبطة بطبيعة النص العربي، كتابة وتحقيقًا، وما اعتراه من تصحيف وتحريف، في أصوله، أو فيما آل إليه بعد ما لحقه من تشويه وأخطاء طباعية...
تقدمت الإشارة إلى أن المدونة اشتملت، إلى جانب النقوش، على ضربين من النصوص: القرآن والحديث، ونصوص الشعر والنثر:
يمثِّل القرآن الكريم نصًّا واقعًا في حيز الاستقراء لأغراض المعجم لتنزُّلِهِ باللسان العربيّ في حقبة تاريخية معلومة. أما الحديث فيمثِّل ركنًا رئيسًا في المدونة التي أقيم عليها المعجم؛ على ما به من اختلاف في أمر روايته.
هو نصٌّ مُسلَّمٌ به، وقراءاته مع اختلافها كلُّها حُجَّةٌ، وقد اقتصرنا على القراءات المُعتدّ بها عند أهل الفنِّ، وهي القراءات العشر المتواترة، بالإضافة إلى القراءات الثلاث الشوّاذ التي لها سندٌ متّصل، دون غيرها مما لا سندَ له.
ومن أمثلة ذلك أنّ الآيات:
هذه نماذجُ وحسب من اختلاف القراءات؛ نوردها تمثيلاً لأنها تفضي بنا إلى موادّ متباينة في متن المعجم.
على الرغم من اختلاف النحويين قديما في أمر الاستشهاد به، فقد أخذ المجلس العلمي برواياته الصحيحة السند؛ إذ إن الاختلاف في روايته إنما جاء لدى من يُحْتَجُّ بهم؛ لأنها جميعًا واقعة في حقبة زمنية غير متنائية. وقد اقتصرنا على كتب الحديث العشرة المعروفة عند أهل علم الحديث بصحّتها.
وأما الضرب الثاني من نصوص المدوَّنة فيتمثّل في الشعر، والنثر بأنواعه من الخطب والحكم والأمثال وكلام العرب. وما يميزه، أنه أو أكثره، ينتسب إلى عصر الرواية الشفوية. وأما المدوَّن فقد جاءنا برسوم الكتابة في زَمَنٍ كانت العربية في أصحابها سليقةً، وكان النظام الكتابي قد وُضِعَ لهم وما كانوا ليضلُّوا في قراءته وإن كانت غير معجمة ولا مشكولة. ولكن هذه النصوص في مُدوّنتنا قد فارقت زمن السليقة، وإنما بَلغتنا منشورةً.
يشكل النص التراثي القديم معضلة حقيقية؛ فدون الوصول إلى الأصل من خلال ما هو منشور عقبات كثيرة:
يتمثَّل النشر في ضربين من التحقيق متفاوتين. ومتعارَف أن المحققين يتفاوتون. وقد احتفينا بالضرب الأول من النصوص التي حققها الأَثْباتُ، وقدَّمنا بعد ذلك ما كان أدنى من غيره إلى الأخذ بأصول التحقيق، مع معرفتنا بأن كثيرًا مما نُشِرَ موسومًا بأنه مُحَقَّقٌ قد غلب عليه الخَطْفُ وترك التحقيق على شَرْطِهِ، وبقي التحريف والتصحيف والوهم والوضع والانتحال بيّنا في كثير من نصوصه.
ويزداد الأمرُ صعوبة حين تُعادُ طباعةُ هذا المنشور لمعالجته؛ ذلك أننا وقفنا على كثير مما فرط من أيدي الطابعين عند تحويل النصوص وطباعتها على نحو قابل للمعالجة؛ إذ قد يقع فيها تصحيف وتحريف يشبه ما وقع للمحققين عندما نظروا في النصوص الأصلية وحققوها؛ فكيف إذا انضاف إلى خطأ المحقق خطأُ الطابع