هذه مقدمة أولى لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وهو في مراحله الأولى، دعا إلى كتابتها دواع، من أهمها:
تشتمل هذه المقدمة على تمهيد يتناول الجهود السابقة في التأريخ اللغوي، و على عدة مباحث عن خصائص معجم الدوحة التاريخي للغة العربية: أولها في التعريف بهذا المعجم، وثانيها عن إعداد ببليوغرافيا المرحلة الأولى، وثالثها عن معضلة النص العربي ومسالك التحقيق، ورابعها عن بناء المدونة اللغوية ومصادرها، وخامسها عن مَنهجيَّة التّأْريخ لألفَاظِ المعْجم التّاريخيّ، وسادسها عن ترتيب المداخل في المعجم، وسابعها عن الإعداد للمعالجة المعجمية وبناء المداخل المعجمية، وثامنها عن منهجية المعالجة المعجمية وضوابطها، وتاسعها عن مسوغات القرارات العلميّة والمنهجية للمجلس العلمي للمعجم.
واستكمالًا لما ورد من معلومات في هذه المقدمة، فقد نُشر معها الدليل المعياري للمعالجة المعجمية والتحرير الذي يتضمن الضوابط المنهجية لبناء المداخل المعجمية للألفاظ، والقرارات العلمية التي أصدرها المجلس العلمي للمعجم في عدد من المسائل اللغوية والمنهجية. ولا شك في أن هذه المقدمة غير مكتملة في صورتها الحالية، وستعرف تحديثات كثيرة تواكب التطور الحاصل في المعجم.
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
المعجم التّاريخيّ للّغة العربيّة صنف من المعاجم اللّغويّة، يتميّز بتضمّنه "ذاكرة" كلّ لفظٍ من ألفاظ اللّغة العربيّة، تُسجِّلُ تاريخَ استعماله بدلالته الأولى، وتاريخَ تحوّلاته البنيويّة والدّلاليّة، وتحولات استعمالاته، مع توثيق تلك "الذّاكرة" بالنّصوص الّتي تشهد على صحّة المعلومات الواردة فيها.
انطلاقا من هذا التّحديد، نستخلص جملة من العناصر الأساسية التي تُشكّل هُويّة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، نوردها في الآتي:
يُقدِّم المعجم لكل لفظ من ألفاظ اللّغة العربيّة مدخلا معجميًّا يتضمّن المعلومات الآتية:
من الناحية المبدئية، لا يمكن أن نتحدث عن معجم تاريخي لأي لغة من اللغات ما لم تتوافر له الأسباب الضرورية الآتية:
وبالنظر إلى تاريخ اللغة العربية الممتد في الزمان والمكان، لم يكن ثمة مناص من تقسيم إجرائي شمل خمس مراحل زمنية، فكانت المرحلة الأولى من أقدم نص عربي موثق إلى العام 200ه. وتمتد المرحلة الثانية من 201 هـ إلى العام 500 هـ؛ بينما تمتد المرحلة الثالثة حتى عصرنا الراهن.
ولمفهوم المرحلة قيمة إجرائية فقط، إذ سرعان ما تُتجاوز بعد الانتقال إلى المرحلة الموالية؛ ذلك لأن بعضا من نصوص مرحلة ما قد يعود إلى مرحلة سابقة لتأخر التأليف أو التحقيق.
يبدأ إنتاج المداخل المعجمية بفهرسة الألفاظ الواردة في مدونة المرحلة مع ربطها بالسياقات المستعملة فيها وترتيبها ترتيبا تاريخيا، ثمّ جمع الألفاظ في حزم اشتقاقية بحسب الجذر الذي تنتمي إليه، وذلك لتحقيق هدفين اثنين:
ثمّ تخضع كل المواد المعالجة إلى المراجعة والتدقيق قبل أن تدفع إلى التحرير فمراقبة الجودة. وتعرض المواد المعجمية المحررة على المجلس العلمي للمعجم لاعتمادها وفق آليات محددة فتصبح بذلك قابلة للنشر الإلكتروني، فالورقي.
ميزته الأولى أنه سيكون حين اكتماله، أول معجم تاريخي وُضع للغة العربية على غير منوال سابق. فلئن تعددت محاولات إنجازه على نحو ما بيَّنّا في التمهيد، فإن أيّا من تلك المحاولات لم تنته بعرض مادة المعجم، أو جُلِّها، أو بعضِها، أو حتى نماذج منها، سوى المعروف مما أنجزه فيشر ونُسب- على خلاف- إلى مشروع معجم تاريخي للغة العربية.
وميزته الثانية أنه يُبنى انطلاقا من مدونة نصية صُمِّمت خصيصا له، جمعت النصوص العربية المطبوعة.
وميزته الثالثة أنه يشمل ألفاظ اللغة العربية المستعملة في النقوش والنصوص، حتى الألفاظ المشتقة اشتقاقا قياسيا كاسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما، ويعرضها مُوثِّقا كل لفظ بنص شاهد يدلّ على استعماله بمعانيه، مقرونا باسم مستعمله وتاريخ استعماله أو تاريخ وفاة مستعمله، مع توثيق مصدر النص.
وميزته الرابعة أنه يرجع باللفظ العربي إلى استعمالاته الأولى في النقوش متى توافر ذلك، ويُقدّم معلومات مهمة عن النقش الذي عُثر عليه فيه.
وميزته الخامسة أنه يربط ألفاظ اللغة العربية بنظيراتها في اللغات القديمة المنتمية إلى نفس العائلة اللغوية الواحدة، متى توافر ذلك.
وميزته السادسة أنه يرجع باللفظ العربي المقترض إلى أصله اللغوي، فارسيا أو يونانيا...
وميزته السابعة أنه يرصد المصطلحات في مجالاتها العلمية والمعرفية والفنية، على النحو الذي يرصد به الألفاظ.
وميزته الثامنة أنه يُعنى بالألفاظ المُستعملة في لغات العرب حتى إن لم تحمل معنى مغايرا كالألفاظ المتناوبة الحركات.
وميزته التاسعة أنه يُعنى بألفاظ القرآن الكريم بقراءاته المتواترة سواء حملت معنى جديدا أم لم تحمله.
وميزته العاشرة أنه يورد توسيما لكل لفظ عربي (اسم، مصدر، اسم فاعل، صفة مشبهة، فعل، لازم، متعدّ...).
من أهم خصائص هذا المعجم أنه:
لا يمكن لمعجم تاريخي للغة العربية إلا أن يكون مُقيّدا بحدود، أيا ما كان المجهود المبذول في إنجازه لأسباب موضوعية يصعب تجاوزها، منها:
إن بناء مدخل معجمي للفظ واحد من الألفاظ يحتاج إلى التأكّد من صحة اللفظ في سياقه ونصه، والتأكد من صحة نسبة النص إلى مؤلفه أو قائله، والتأكّد من تاريخه. وغالباً ما يستلزم ذلك ترجيح رواية على رواية، أو قول على قول، أو تحقيق على تحقيق. ثم يأتي بعد كل ذلك استخلاص معنى اللفظ داخل سياقه ونصه وصياغة تعريف له وفق ضوابط التعريف المتفق عليها.
يُضاف إلى ذلك أن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية في مرحلته الأولى محدود في مادته المقتصرة على النقوش والنصوص الممتدة إلى العام 200 هـ. وينبغي استحضار كل ذلك في استعراض مداخله المعجمية التي ستعرف تغيرات في الألفاظ والمعاني في المراحل اللاحقة التي بدأ مشروع المعجم بإعداد مدونتها اللغوية.
نظرا لانبثاث نصوص اللغة العربية في الزمان والمكان والمعارف، وتعذر العمل فورا على مدونة لغوية لقرابة عشرين قرنا من الزمن، رأت الهيئة التنفيذية تقسيم المدونة إلى مراحل دون اعتبار لأي معطى تاريخيا كان أو سياسيا أو ثقافيا، وعدّت ذلك تحديدا إجرائيا لا يؤثر في المخرج النهائي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية.
وقد رافق هذا التقسيم، الإعداد المرحلي للببليوغرافيا والمدونة النصية الخاصة بكل مرحلة، وقد امتدت المرحلة الأولى منها، من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الثاني للهجرة.
لا أحد ينكر الأهمية القصوى لإعداد ببليوغرافيا بمواصفات علمية دقيقة، تخدم المعجم التاريخي، وتؤسس مدونته النصية، ولا أحد ينكر الصعوبات المنهجية التي تعترض السبيل خاصة في مرحلة تاريخية يشوبها كثير من الغموض والإبهام، نظرا لبعد الزمن والإغراق في التاريخ، واعتماد الرواية الشفوية في النقل، وتَعَرُّض النصوص للتحريف والتصحيف، والتلفيق والوضع، ونحل النصوص إلى غير أصحابها...فضلا عن فساد كثير من النصوص بسبب عبث النساخ قديما، والمحققين غير الأكفاء حديثا، وانتشار الطبعات التجارية...
من أجل ذلك، وضعت الهيئة التنفيذية خطة علمية لجمع نصوص اللغة العربية الواقعة في المرحلة الأولى، وأسندت مهمة الإنجاز لنخبة من العلماء المحققين من أعضاء المجلس العلمي، بعد أن أُقِرَّ استبعاد المخطوط، لصعوبة الحصول عليه، والتعامل معه، والاكتفاء بالمطبوع من المصادر، وقد مر الإعداد بالمراحل الآتية:
بعد جهد كبير حُصرت مصادر مدوَّنة المرحلة الأولى من مراحل المعجم العربي التاريخي إلى نهاية القرن الثاني الهجري حصرا أوليا في 772عنوانًا موزّعة حسب الموضوعات على الأبواب والفصول الآتية:
(ويشتمل على 144 عنوانًا) موزعة على ثلاثة فروع:
(ويشتمل على 500 عنوانٍ) موزعة على أربعة فروع:
ويشتمل على 46 عنوانا موزعة على ثلاثة فروع:
ويشتمل على 82 عنوانا موزعة على فرعين اثنين:
ولا بد من الإشارة إلى أنَّ الفترةَ الزمنية المحدَّدة في إعداد هذه البيبليوغرافيا: من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري، إنما يُعنى فيها بالنصوص الأصلية دون غيرها. أما كتب الاختيارات الشعرية مثلا، باستثناء المفضَّليات التي صنَعها المفضل الضبيّ (ت178هـ)، فقد جمعها ووثَّقها وحقَّقها رواةٌ وعلماء من القرن الثالث فما بعده، كالأصمعيات، وحَماسَتَي أبي تمام الصغرى والكبرى، وحماسة البحتري، وديوان الهُذليّين، وجمهرة أشعار العرب، ومنتهى الطلب من أشعار العرب...
ولذلك كان المعتبرُ هو النظر إلى النصوص الأصلية المضمَّنَة في هذه الدواوين والاختيارات، وعصورِ أصحابها من الشعراء، لا إلى عصور صانعيها وجامعيها ومحقّقيها المتأخرين. فما يزال الباحثون والدارسون المشتغلون بالتراث شغوفين بجمع أشعار الجاهليين والإسلاميين وصُنع دواوينهم إلى يوم الناس هذا. على أننا لم ندخل في هذه البيبليوغرافيا إلا المجاميع والاختيارات التي تقتصر على أشعار الجاهليّين والإسلاميّين وبداية العصر العباسي إلى نهاية القرن الثاني.
وإذا كان عدد الدواوين والنصوص الشعرية يمثل نحو ثلثي عناوين هذه القائمة، فذلك لا يعني أننا أحطنا بكل النصوص الشعرية للمرحلة الأولى، وإنما اقتصرنا بالأساس على الشعراء الذين لهم دواوين مجموعة ومطبوعة، وألحقنا بهم فئة أخرى ممن وردت أشعارُهم في المجاميع والاختيارات والمصادر التي وردت ضمن قائمتنا هذه. ولم نهتم في هذه المرحلة بالنصوص المجهولة القائل، كما لم نرَ فائدةً في تتبّع كل أسماء الشعراء الذين ليست لهم دواوين مصنوعة ومعروفة، لأن كثيراً من أشعار هؤلاء سنجدها ضمن هذا النوع من المجاميع وكتب الاختيارات الشعرية التي اشتملت عليها القائمة الحالية. أما الجزء الآخر المتبقّي، فسيأتي بدوره ضمن المجاميع ومصادر الشعر العربي الأخرى التي ستدخل ضمن القوائم الخاصة بمراحل العصور التالية.
بعد الانتهاء من تحديد مصادر المرحلة الأولى، من قبل لجنتين، دُمج العملان في قائمة موحدة عرضت على أنظار المجلس العلمي، فخضعت للتحقيق والتدقيق والمراجعة والإضافة والحذف. وقد أسفرت عملية المراجعة عن الآتي:
استقرت الببليوغرافيا، بعد المراجعات المتتابعة، بالبيانات والمعلومات الآتية:
من أجل بناء مدونة لغوية شاملة، لا تغفل شيئا من نصوص العربية المؤسسة، ارتأى القائمون على المعجم أن تكون النقوش ركنا مكملا لأركانه؛ إذ تُعَدّ النقوش مصدرًا معجميًّا مهمًّا يرفد معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة بمادّة غزيرة تُسهم في جلاء الخلفيّات التاريخيّة لكثير من المفردات. ويزيد من أهمّيّة النقوش أن كثيرًا من موادّها لم يَشُقَّ طريقَه إلى المعاجم العربيّة.
تقع المادّة النقشيّة المستخدَمة في معجمنا هذا في صنفين كبيرين: أوّلهما النقوش العربيّة الشماليّة العتيقة، التي اصطُلح على تسميتها بِـ Ancient North Arabian وثانيهما النقوش العربيّة القديمة، أي ما يُسمّى: Old Arabic.
تُنبئنا النقوش والمخربشات على الواجهات الصخريّة، المكتشَفة في المناطق الشماليّة من الجزيرة العربيّة، بحَراك حضاريّ لم يحظَ لدى المؤرّخين واللغويّين العرب القدماء والمُحْدَثين بالاهتمام الذي يستحقّه. ومعظم هذه النقوش يعود إلى الألف الأوّل قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلاديّ تقريبًا. وقد صنّف العلماء هذه النقوش في مجموعات تبعًا لأنماط الخطّ المستخدمة في كتابتها أو بحسب مناطق انتشارها أو بعض مميّزاتها الصرفيّة والنحويّة والأسلوبيّة. وتندرج تحت هذا التصنيف النقوشُ الصفويّة والثموديّة بأقسامها المختلفة التي سيأتي بيانُها.
والنقوش الصفويّة منسوبةٌ إلى "الصَّفا" في منطقة الحرّة جنوب شرق دمشق، ثم أُطلقت هذه التسمية على سائر النقوش المنتشرة في المناطق الجنوبيّة الشرقيّة منها. وتمثّل الباديةُ الشماليّة الشرقيّة من أراضي الأردن الحالي ما يزيد على سبعين بالمئة من الصحراء البركانيّة المسمّاة بالحَرّة في منطقة بلاد الشام، وقد شكّلت الصخورُ المنتشرة فيها أسطحًا مثاليّة لكتابة تلك النقوش. ويُذكر أنَّه عُثر على نقوش صفويّة خارج المناطق المذكورة، كتدمر في سوريا، ولبنان، ووادي حوران غرب العراق، وبومبيي في جنوب إيطاليا. ويغلب على هذه النصوص المكتوبة بلغة قريبة من عربيّة العصر الجاهليّ، الطابعُ البدويّ القائم على الترحال والتنقّل الموسميّ من منطقة الحرّة في شمال شرق الأردن عبر سوريا وغرب العراق وشمال السعودية، والوقوف على أطلال الأحبّة، واستذكار الموتى، وغيرها من الموضوعات المتّصلة بالحياة اليوميّة، علمًا بأننا لم نعثر حتى الآن على نقوش تحوي نصوصًا أدبيّة أو تاريخيّة طويلة. وتعود النقوش الصفويّة بمجملها إلى ما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الرابع الميلاديّ، وثمّة ما يزيد على خمسة وعشرين ألف نقش ممّا وُثّق من خلال المسوحات والمكتشفات التي بدأت منذ عام 1857، وإن بقي كثير منها غير منشور.
أمّا النقوش المسمّاة ثموديّة فقد كان تصنيفها مَحَطَّ اهتمام الباحثين منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان في الغالب تقسيمًا جغرافيًّا بحسب مواقع انتشارها. وتشتمل الثموديّة على النقوش التَّيْماويّة والحسماويّة والدادانيّة/اللحيانيّة. فالنقوش التَّيْماويّة منسوبة إلى تَيْماء في شمال غرب المملكة العربيّة السعوديّة، وهي تُعرف أيضًا بالثموديّة A. ولعلّ هذه النقوش من أقدم النقوش العربيّة الشماليّة العتيقة، وقد وصلَنا أغلبُها موثِّقًا لبعض الأحداث التي مرّت على منطقة تَيْماء وما حولها، ومن ذلك إقامة الملك البابليّ (نبونيد) فيها في القرن السادس قبل الميلاد. أما النقوش الحسماويّة فهي التي كانت تُعرف سابقًا بالنقوش التبوكيّة الثموديّة، أو الثموديّة E، كما أنّ منها أنواعًا أخرى كالنقوش الثموديّة B الممتدّة بين مدائن صالح وتَيْماء، والنقوش الثموديّة C، وهي من منطقة غرب حائل، إلخ. وتُعَدّ النقوش الحسماويّة أهمّ الأنماط الثموديّة وأكبرها عددًا، وهي تنتشر من منطقة باير في جنوب شرق الأردن حتى الحدود الأردنيّة-السعوديّة تقريبًا، ويتركّز أكثرها في منطقة وادي رمّ، ويرجع تاريخُها إلى النصف الثاني من الألف الأوّل قبل الميلاد وحتى القرنين الأوّلين للميلاد. وأما النقوش الدادانيّة/اللحيانيّة فموطنها دادان التي تُعرف اليوم بالعُلا، وهي واحة عظيمة في الشمال الغربيّ للجزيرة على طريق التجارة الواصل بين جنوب الجزيرة وبلاد الشام، وكانت مركزًا لمملكتَيْ دادان ولحيان؛ وهي ترجع بمجملها إلى الألف الأوّل قبل الميلاد.
يُطلق هذا الاسم على مجموعة من النقوش العائدة إلى فترة ما قبل الإسلام، وهي من أرومة اللغات الساميّة، وتحديدًا اللغات العربيّة الشماليّة التي تندرج في إطارها العربيّة القديمة، والكلاسيكيّة، والوسيطة، علاوةً على اللهجات المحكيّة القديمة والمعاصرة. وقد كُتب أقدم النقوش العربيّة القديمة بالخطّ السبئيّ في القرن الثالث قبل الميلاد، وعُثر عليه في نجران جنوب المملكة العربيّة السعوديّة. وكذلك وصلتنا نقوش تشهد على مرحلة انتقاليّة كُتبت فيها العربيّة بالخطّ النبطيّ الآراميّ الذي تطوّر عنه الخطّ العربيّ. ومن الصعوبات التي يواجهها دارسو النقوش العربيّة القديمة من منتصف القرن الأوّل قبل الميلاد حتى القرن الرابع للميلاد مُعاصرتُها لعدد من لهجات النقوش العربيّة الشماليّة العتيقة، إذ رغم وجود فوارق واضحة بين المجموعتين قد لا يكون من الميسور في بعض الحالات التمييز الدقيق بينهما نظرًا لتقاربهما، ولأن طبيعة كتابتهما قد لا تُسعفنا على الحسم في نطق المفردات، ولا سيّما لخلوّ أنظمة الكتابة من الصوائت القصيرة.
ومن الأمثلة على النقوش العربيّة القديمة نصوصٌ كُتبت بالخطّ السبئيّ، وعُثر عليها في قرية (الفاو) عند الحدود الشماليّة الغربيّة للربع الخالي. وقد كان للفاو حضور ثقافيّ بارز في الفترة الممتدّة من القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد حتى القرن الخامس للميلاد، وكانت "عاصمة" لقبائل قحطان ومَذْحِج وكِنْدة العربيّة التي دعا سادتُها أنفسَهم "ملوكًا"، إلا أنها كانت واقعة تحت الأثر الثقافيّ لمملكة سبأ. ومن النقوش العربيّة القديمة ما هو مكتوب بالخطّ النبطيّ، ومن أشهر تلك النقوش نقش (عين عَبَدة) الذي قد يرجع إلى ما قبل العام 150 للميلاد، والذي يتكوّن من ستة أسطر، الرابع والخامس منها مكتوبان باللغة العربيّة القديمة، ولهما أهميّة بلاغيّة كبيرة، بل من الباحثين من يجزم أنهما من الأمثلة المبكرة على الشعر العربيّ. ومن أمثلة هذه النقوش أيضًا نقش (النّمارة) في صحراء سوريا الجنوبيّة، وهو مكتوب بالخط النبطيّ، ويعود تاريخه إلى العام 328 للميلاد؛ ومخربشات جبل (أم جديد) بالقرب من العُلا، ونقش جبل (رمّ)، ونقش (زَبَد)، ونقش جبل (أُسَيْس)، ونقش (أمّ الجِمال).
وإلى ذلك ثمّة مجموعة من النقوش تمتزج فيها العربيّة القديمة بلغات أخرى. ولعل كَتَبَة هذه النقوش هم من الناطقين بالعربيّة، ولذا استعانوا بمفردات عربيّة في محاولتهم كتابةَ نصّ بلغة غير عربيّة. ونضرب مثلاً على ذلك النقش الموسوم بـ JSNab17 وهو نقش جنائزيّ من (الحِجْر) أو (مدائن صالح) الواقعة شماليّ العُلا، ويعود تاريخه إلى العام 267 للميلاد، ويبدو أن كاتبه كان يحاول الكتابة بالآراميّة النبطيّة إلا أنه استعان بالعربيّة ليكتب ما لم يستطع التعبير عنه بالآراميّة.
وقد تضمنت القائمة النهائية للنقوش قرابة 70 عنوانا، أحيل أمر تدقيقها، ومعالجة ألفاظها إلى لجنة من الخبراء في الميدان.
لما كان العمل في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية يعتمد أساسًا على المدوَّنة التي تجمع نصوص اللغة، كان لا بد من تخيُّر أوثق النشرات وأدقها، وهو أمر يتطلب الكثير من الرصد والدراسة والتمحيص بالإضافة إلى الخبرة والمعرفة والاطلاع، ولذلك:
وهذه أهم معايير التفاضل الإيجابية، التي ترقى بالكتاب المحقق، وتجعله معتمدًا:
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه المعايير ليست حاسمة في عدد غير قليل من المنشورات... على أننا اعتمدنا في بعض الكتب على عدد من الطبعات، على سبيل الاحتياط، بغيةَ الوصول إلى مدونةٍ جامعةٍ تشتمل على كل تراث المرحلة المطبوع، وعدم التفريط في أي جزء منه.
مع الإشارة إلى أنَّ كل نصٍّ من هذه النصوص -برغم اصطفائها -يخضع لتمحيص المعالِج المعجمي تحقيقًا، وتدقيقًا، وضبطًا، وتحريًّا لصحة الوزن، وما إلى ذلك، مما يقلِّل من احتمالات الخطأ أو الزلل.
يُمثِّلُ بناءُ المُدوَّنة اللُّغويَّة أولى مراحل الصِّناعة المُعجميَّة؛ وتُعنى هذه المرحلة بتوفير النُّصُوص الَّتي سيُعتمَدُ عليها في استخلاص مادَّة المُعجم. ولمَّا كانَ المأمولُ مِن المُعجَم التَّاريخِيّ المنشود أن يكونَ دِيوانًا للعَرَبِيَّة، يُؤَرِّخُ لألفاظِها ومعانِيها، ويُبَيِّن ما طرأ على تلك الألفاظ من تَحوُّلٍ وتغيُّرٍ، كان لا بُدَّ لمُدَوَّنة هذا المُعجَم أن تَضُمَّ قدرًا وافِيًا مِن النُّصُوص الَّتي تعكِسُ واقِعَ اللُّغة العَرَبِيَّة عبرَ تاريخِها المديد، وفي بيئاتِها ومراكِزِها الثَّقافِيَّةِ والحضارِيَّة الَّتي شَهِدَت مراحِلَ نُمُوِّها وتَطَوُّرِها.
وكان من أهم الأسباب التي أعاقت الشروع الفعلي في إعداد معجم تاريخي للغة العربية: الافتقارُ إلى رؤيةٍ واضحةٍ لحصر التُّراث العربيّ المُدَوَّن عبرَ العُصُور والأمكنة، والإشكالاتُ الَّتي تواجه صُنَّاعَ المُعجم أثناءَ بنائها. وأبرزُ هذه الاشكالات الامتدادُ الزمني لحقبة الرواية -وهو امتدادٌ ليس له نظيرٌ في اللغات التي أنجزتْ معاجمَها التاريخية-، وتعدُّدُ مصادر التراث المعرفي العربي بين المطبوعات والمخطوطات والنقوش والبرديات، فضلا عن أنَّ قدرًا كبيرًا من هذا التُّراث ما يزالُ مخطوطًا أو مجهولًا.
تجاوزا لهذه العقبات، اتجهت الهيئة التنفيذية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية إلى بناء مُدوَّنةٍ لُغويَّةٍ مُحَوسَبةٍ، وفقَ ما يتَّفقُ مع طبيعة اللُّغة العربيَّة ونظامها المُعجميّ من ناحية، وما يُحقِّقُ أهدافَ المُعجم المنشود ويُلبِّي حاجةَ مُستخدميه من ناحيةٍ أخرى؛ فجمعت كل نصوص العربية في النقوش وفي المطبوعات منذ أول ظهورٍ لها إلى نهاية القرن الثاني للهجرة. وسعيًا إلى إخراج المُدوَّنة اللُّغَويَّة في صُورةٍ تسمحُ بمُعالجتها وفقَ ما يُحقِّقُ أهدافَ المُعجم، فقد قامَت منهجيَّةُ البناء على خمس مراحلَ أساسيَّة، هي: (الجمع، والتَّصنيف، والتَّحرير، والتَّأريخ، والتَّرتيب). وبيانُ ذلكَ على النَّحو الآتي:
نظرًا لطبيعة الحقبة الزَّمنيَّة الَّتي تُمثِّلُها مُدوَّنةُ المرحلة الأولى – إذ يُعَوَّلُ عليها في تسجيل أوَّل استعمالٍ مُدَوَّنٍ لمباني العربيَّة ومعانيها، وإثبات ما طرأَ على هذه المباني والمعاني من التَّغَيُّر والتَّطوُّر – فقد استدعى جمعُ مادَّتها إجراءَ حَصرٍ للتُّراث العربيّ المكتوب في هذه الحِقبة، وجمعَهُ من أمَّهات الكُتُب العربيَّة في مُختلف ميادين المَعرفة.
وقامَت منهجيَّةُ الجمع على الأسُس الآتية:
بنيت مُدوَّنةُ المرحلة الأولى على الببليوغرافيا التي تقدمت الإشارة إليها، وقد تحولت من عناوين إلى وثائق بدل العناوين، نظرا لطبيعة المرحلة، وتضمنت: 1925 وثيقة. وأعيد تصنيف هذه الوثائقُ إلى خمس مجموعاتٍ، هي:
بعدَ جمع مادَّة المُدوَّنة وتصنيفِها، كانَ علينا أن نُحرِّرَها على النَّحو الَّذي يسمحُ للآلة بالتَّحكُّم في بياناتِها بالإضافة أو الحَذف أو التَّعديل. لهذا، قُمنا بتحويل نُصُوص المُدوَّنة من صُورتِها الورقيَّة إلى صُورةٍ رَقميَّةٍ مُحَوسَبة. وقُمنا بتحرير مادَّة المُدوَّنة عبرَ ثلاثِ وسائل:
وتتمَّةً لتحرير مادَّة المُدَوَّنة، فقد أعقَبنا إدخالَ النُّصُوص بمجموعةٍ من الإجراءات الَّتي تضمنُ صلاحيَّةَ المادَّة المُدخَلة للمُعالجة. وتمثَّلت هذه الإجراءاتُ فيما يأتي:
تُغطِّي المُدوَّنةُ اللُّغويَّةُ للمرحلة الأولى من مراحل المعجم حِقبةً تاريخيَّة تمتدُّ إلى ما يقرب من سبعة قُرون. وفي إطار السَّعي إلى الإفادة من المُدَوَّنة في استخلاص المعلومات التَّاريخيَّة للمباني والمعاني، فقد وُضِعَت منهجيَّةٌ لتأريخ وثائق المُدوَّنة.
وقامَت هذه المنهجيَّة على الأسُس الآتية:
تنوَّعَت وثائقُ المُدوَّنة بينَ ثلاثة أصناف:
ومُراعاةً لهذا التَّصنيف، فقد رُتِّبَت وثائق المُدوَّنة اللُّغويَّة تاريخيًّا من الأقدم إلى الأحدث، في إطار الحِقبة الزَّمنيَّة؛ ورُوعيَ في منهجيَّة ترتيب الوثائق ما يأتي:
مَثَّلَ بناءُ المُدوَّنة اللُّغويَّة تحدِّيًا كبيرًا للقائمين على المُعجم، نظرًا لجدَّة استخدام المُدوَّنات اللُّغويَّة في الصِّناعة المُعجميَّة العربيَّة. ومع هذا، فقد كانَ التَّحدِّي الأكبر في إخضاع هذه المُدوَّنة لمجموعة العمليَّات (المُعالَجات) الَّتي تُؤدِّي إلى استخلاص مادَّة المُعجم على النَّحو الَّذي تتحقَّقُ معهُ غاية الصِّناعة المُعجميَّة. وسعيًا إلى هذا، فقد خَضَعت المُدوَّنةُ اللُّغَويَّة لمُعالَجةٍ حاسوبيَّة، بهدف هيكلة المُفرَدات والسِّياقات وتيسير تحليل بياناتِها؛ أعقَبَتها مُعالَجةٌ مُعجميَّة، بهدف استخلاص مادَّة المُعجم وتهيئتِها وضبطِها وتحريرِها. وبيانُ هذا على النَّحو الآتي:
وهُوَ إجراءٌ حاسُوبيّ، يهدفُ إلى تحويل مادَّة المُدوَّنة من صُورتِها الأوَّليَّة النَّاتجة عن تحريرِها إلى صُورةٍ توصيفيَّة تُمَكِّنُ الآلةَ من قراءتِها وتحليلِها. ولأنَّ العربيَّةَ تتمتَّعُ بنظامٍ كتابيٍّ خاصّ بمحارفِها، فقد تمَّ ترميزُ وثائق المُدوَّنة بصيغةٍ مُوَحَّدة، هي صيغة التَّرميز ( CP-1256) الَّتي تدعمُ الألفبائيَّة العربيَّة، وتُوَجِّهُ الآلةَ إلى فهم بنية اللُّغة وتعيين أساليب مُعالَجَتِها.
وهي عمليَّةٌ تمهيديَّة للمُعالَجة المُعجميَّة؛ حيثُ تُعنى بحصر مُفرَدات النُّصُوص في المُدوَّنة اللُّغويَّة وإحصائها واستخلاص السِّياقات الَّتي تردُ فيها كُلُّ مُفرَدةٍ على حِدة. وقد خَضَعَت المُدَوَّنةُ للفهرسة الآليَّة الألفبائيَّة، لتحقيق ثلاث غايات:
وهُوَ إجراءٌ حاسُوبيٌّ مُتمِّمٌ للفهرسة الآليَّة، يهدفُ إلى استرداد جُذُور المُفرَدات وفُرُوعِها وتعيين المعاني الوظيفيَّة الصَّرفيَّة [البِنَويَّة]. ونظرًا لقيام النِّظام المُعجميّ العربيّ على التَّرتيب الجذريّ للمداخل، فقد عُولِجَت نُصُوصُ المُدوَّنة اللُّغويَّة صرفيًّا، بعدَ إخضاعِها للفهرسة الآليَّة. وساعَدَت هذه المُعالَجة على تعيين المداخل [الَّتي تُعَبِّرُ عنها الجُذُور] والوحدات المُعجميَّة [الَّتي تُعَبِّرُ عنها الفُرُوع]؛ كما ساعَدَت على التَّوسيم الصَّرفيّ للمُفرَدات. وإتمامًا للمُعالَجة الحاسُوبيَّة، فقد وُضِعَت مُخرَجاتُ الفهرسة الآليَّة والتَّحليل الصَّرفيّ في مِنَصَّة [بيئة عمل حاسُوبيَّة]، تسمحُ بالمُعالَجة المُعجميَّة للنُّصُوص، على مُستوى المباني والمعاني.
تُنجِزُ الآلةُ قدرًا من العمليَّات الَّتي تُوفِّرُ الوقتَ والجُهدَ على المُعالجين والمُحرِّرين؛ لكنَّ مُخرَجاتها تظلُّ في حاجةٍ إلى مُعالَجةٍ من نوعٍ خاصّ، يُعَوَّلُ فيها على المهارة اللُّغويَّة من ناحية، وفهم معايير الصِّناعة المُعجميَّة من ناحيةٍ أخرى. ولأنَّنا ننشُدُ في المُعجم التَّاريخيّ أن يكونَ تعبيرًا حقيقيًّا عن واقع العربيَّة عبرَ تاريخِها، فقد خَضَعت المُدوَّنةُ اللُّغويَّةُ – بعدَ مُعالجتِها حاسوبيًّا – للمُعالَجة المُعجميَّة عبرَ ثلاثِ مراحلَ أساسيَّة. وبيانُها على النَّحو الآتي:
هي مرحلةُ بناء الهيكل الخارجيّ لمُفرَدات المُعجم؛ وتمَّت عبرَ مَرحَلَتَين:
وتنوَّعَت أشكالُ الفُرُوع لتشمل:
ثمَّةَ العديدُ من النُّصُوص الَّتي يحومُ الغُمُوضُ حولَها، سواءٌ من حيثُ نسبتُها إلى أحدٍ بعَينِه، أو من حيثُ انتماؤُها إلى الحِقبة الزَّمنيَّة. ولأنَّ المُعالَجَةَ المُعجميَّةَ لمادَّة المُدَوَّنة تستدعي التَّأكُّدَ من صِحَّة النُّصُوص ونسبتِها، فقد وَضَعنا "ببليوغرافيا مصادر المُدوَّنة" لتكونَ قاعدةَ بياناتٍ تحوي المعلومات الببليوغرافيَّة الكاملة لمصـادر المُدوَّنة، وأرفَقنا بها "المكتبة المرجعيَّة" الَّتي تحوي مُتُونَ هذه المصادر في صُورتِها الرَّقميَّة المُصُوَّرة عن الأصول المطبوعة. وقامَت منهجيَّةُ بناء البيبليوغرافيا والمكتبة المرجعيَّة على الأسُس الآتية:
حرصًا على التدقيق والتوثيق، بنيت مكتبة مرجعية، يرجع إليها المعالجون المعجميون لتوثيق النصوص وضبطها عند الحاجة، وقد ألحقت بالوسائل المساعدة في المنصة الحاسوبية، وقد جاءت على الهيئة الآتية:
وقد اعترضت بناء المدونة اللغوية، فضلًا عن هذه الصعوبات، جملةٌ من الإشكاليات، المرتبطة بطبيعة النص العربي، كتابة وتحقيقًا، وما اعتراه من تصحيف وتحريف، في أصوله، أو فيما آل إليه بعد ما لحقه من تشويه وأخطاء طباعية...
تقدمت الإشارة إلى أن المدونة اشتملت، إلى جانب النقوش، على ضربين من النصوص: القرآن والحديث، ونصوص الشعر والنثر:
يمثِّل القرآن الكريم نصًّا واقعًا في حيز الاستقراء لأغراض المعجم لتنزُّلِهِ باللسان العربيّ في حقبة تاريخية معلومة. أما الحديث فيمثِّل ركنًا رئيسًا في المدونة التي أقيم عليها المعجم؛ على ما به من اختلاف في أمر روايته.
هو نصٌّ مُسلَّمٌ به، وقراءاته مع اختلافها كلُّها حُجَّةٌ، وقد اقتصرنا على القراءات المُعتدّ بها عند أهل الفنِّ، وهي القراءات العشر المتواترة، بالإضافة إلى القراءات الثلاث الشوّاذ التي لها سندٌ متّصل، دون غيرها مما لا سندَ له.
ومن أمثلة ذلك أنّ الآيات:
هذه نماذجُ وحسب من اختلاف القراءات؛ نوردها تمثيلاً لأنها تفضي بنا إلى موادّ متباينة في متن المعجم.
على الرغم من اختلاف النحويين قديما في أمر الاستشهاد به، فقد أخذ المجلس العلمي برواياته الصحيحة السند؛ إذ إن الاختلاف في روايته إنما جاء لدى من يُحْتَجُّ بهم؛ لأنها جميعًا واقعة في حقبة زمنية غير متنائية. وقد اقتصرنا على كتب الحديث العشرة المعروفة عند أهل علم الحديث بصحّتها.
وأما الضرب الثاني من نصوص المدوَّنة فيتمثّل في الشعر، والنثر بأنواعه من الخطب والحكم والأمثال وكلام العرب. وما يميزه، أنه أو أكثره، ينتسب إلى عصر الرواية الشفوية. وأما المدوَّن فقد جاءنا برسوم الكتابة في زَمَنٍ كانت العربية في أصحابها سليقةً، وكان النظام الكتابي قد وُضِعَ لهم وما كانوا ليضلُّوا في قراءته وإن كانت غير معجمة ولا مشكولة. ولكن هذه النصوص في مُدوّنتنا قد فارقت زمن السليقة، وإنما بَلغتنا منشورةً.
يشكل النص التراثي القديم معضلة حقيقية؛ فدون الوصول إلى الأصل من خلال ما هو منشور عقبات كثيرة:
يتمثَّل النشر في ضربين من التحقيق متفاوتين. ومتعارَف أن المحققين يتفاوتون. وقد احتفينا بالضرب الأول من النصوص التي حققها الأَثْباتُ، وقدَّمنا بعد ذلك ما كان أدنى من غيره إلى الأخذ بأصول التحقيق، مع معرفتنا بأن كثيرًا مما نُشِرَ موسومًا بأنه مُحَقَّقٌ قد غلب عليه الخَطْفُ وترك التحقيق على شَرْطِهِ، وبقي التحريف والتصحيف والوهم والوضع والانتحال بيّنا في كثير من نصوصه.
ويزداد الأمرُ صعوبة حين تُعادُ طباعةُ هذا المنشور لمعالجته؛ ذلك أننا وقفنا على كثير مما فرط من أيدي الطابعين عند تحويل النصوص وطباعتها على نحو قابل للمعالجة؛ إذ قد يقع فيها تصحيف وتحريف يشبه ما وقع للمحققين عندما نظروا في النصوص الأصلية وحققوها؛ فكيف إذا انضاف إلى خطأ المحقق خطأُ الطابع أو الناسخ!
جاء في مادة (حزم) قول حُرَيْث الطائي يمتدح نفسه وبطولته في الغارات:
إِذا ما خَرَجنا خَرَّتِ الأَكمُ سُجَّدًا *** لِعِزٍّ عَلا حَيزمُهُوَعَلاجِمُه
فقد سجَّل الطابِعُ (حَيزَم) في هذا البيت الذي صوابه (حيزوم)، كما جاء في الأغاني:
إذا ما خَرَجنا خَرَّتِ الأَكمُ سُجَّدًا*** لِعِزٍّ عَلا حَيزومُهُوَعَلاجِمُه
ومن معضلات النص التراثيّ اختلاف روايات الموضع الواحد، واختلاط المتن بالهامش، وذلك مستفيض ومنه:
هَمَمْتُ بأنْ لا أَطْعَمَ الدَّهْرَ بَعْدَهُمْ حياةً فكان الصَّبْرُ أَبْقى وأَكْرَما
إذ يرد في هامش الأصل: ويروى" أَتْقَى"، ويروى " أحْجى".
ونحن نعلم أن روايات النص الواحد قد تتعدد بتعدد الرواة، وتتعدد باحتمالات القراءة التي تتراءى للمحقق بهدي ما وُضِعَ من القواعد بعد زمن. وكثيرًا ما أسلمت هذه القراءة إلى إعراب الموضع الواحد أعاريبَ شتَّى، وكان هذا مفارقًا بطبيعة الحال للقراءة على وفق النص في أصل صُدوره عن صاحبه. وإذا كان الاختلاف في تعدد قراءة الموضع الواحد من جهة الإعراب، فهو ليس بضائر لأنه لا يدخل فيما نحن فيه، ولكنه قد يقع في ضبط الأبنية المفضي إلى اختلاف المعنى؛ وذلك شأن ما وقع في قول لبيد:
كأنَّها بعد ما أَفْنَيْتُ جِبْلَتها خَنْساءُ مسبوعَةٌ قد فاتَها بَقَرُ
فقد قال المحقق: بتثليث الجيم. فإذا قُرِئت بضم الجيم كان معناها: السَّنامُ، أما بالكسر والفتح فالمعنى: خَلْقَها الذي جُبِلَتْ علَيْه أو خِلْقَتها التي عليها غلظها وجسمها.
بيد أن أَثبات المُحَقِّقين أنفسهم قد يستقيم لهم وجهٌ من التَّرْجيح، أحيانًا، ويقيمون على غير ذلك أحيانًا.
وَلَقَدْ عَلِمْتُ فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ أنْ سَوْفَ يَظْلِمُني سبيلُ صِحابي
على " تَخْلِجُني" برواية القالي، وعلى ما جاء فوقها وهو (يظلمني) واستدلَّ بقول أصحاب اللغة: كل ما أَعْجَلْتَهُ عن أدائِهِ فقد ظَلَمْتَهُ. و"الظُّلْمُ" أيضًا النَّقْصُ من الشيء، ومنه قوله تعالى: " ولَمْ تَظْلِمْ منه شيئًا"؛ أي لم تنقص منه شيئًا.
قَدْ يُقْتِرُ المَرءُ يوْمًا بعد كَثْرَتِهِ وَيَكْتَسي العودُ بَعْدَ اليُبْسِ بالوَرَقِ
وأشار إلى الرواية الأخرى: قَدْ يَكْثُرُ المالُ يَوْمًا بَعْدَ قِلَّتِه، دون ترجيحٍ أو تعليق.
وإذن يُصْبِحُ الأمر مُشْتَبِهًا تمامًا! وهذه أمثلةٌ وحسب مما يَقَعُ لِأَثْباتِ المُحَقِّقينَ ويَدَعُ الباحث في حَيْرَةٍ كَحَيْرَتِهِم!
احتكمنا في استقراء النصوص منهجًا يقوم على فحص النص بما هو بنية داخلية نشأت في سياق زمني. وقد هدانا هذا المنهج الذي يزاوج بين الانسجام البنيويّ والاتساق مع السياق الخارجي بعناصره إلى تصحيح كثير مما وقع فيه " المحقّقون" اعتمادا على ثلاثة معايير هي معهود العرب في كلامها، والمعاني الأصول للمادة المعجمية، ومعطيات السياق بوجهيه الداخلي والخارجي، أي سياق الكلام، ومعطيات المقام وظروف انتاج الخطاب. وقد اعتمدنا في ذلك على عدد من القرائن:
قد تتعدد الروايات لغياب الإعجام وحدوث التَّصحيف؛ ففي أبيات الحماسة:
ولَوْ نِيلَ في عَهْدٍ لَنا لَحْمُ أرْنَبٍ وَفَيْنا وهذا العَهْدُ أنْتَ م ُغالِقُهْ
أَكُلُّ خَميسٍ أَخْطَأَ الغُنْمَ مَرَّةً وصادَفَ حَيًّا دانيًا وهو سائِقُهْ
وكُنَّا أُناسًا دائِنينَ بِغِبْطَـةٍ يَسيلُ بِنا تَلْعُ المَلا وأَبارِقُــهْ
يقول المحققُ: معالِقُهْ، وأشار في الشرح إلى الرواية بالوَجْهَيْن: قال: لكَ أن ترويه بالعَيْن، والمعنى: هذا العهد الذي مَعَهُنَّ متعلِّق بِذِمَّتكَ وفي رقبتكَ حتى نَخْرُجَ منه، ومَنْ روى (مغالِقُهْ) بالغين معجمة يكون من غلق الرَّهْن: أي أنت مفسده ومحتَبِسُهُ تاركًا للوفاء به.
ويقول: في هامش الأصل ما يفيد أن (دانيًا) تُرْوى دائبًا، وفي رواية المرزوقيّ دائِنًا.
ويقول أيْضًا: في هامش الأصل ما يفيد أن (دائنين) تروى (آمِنين).
كُلُّ امرئٍ فاقدٌ أَحِبَّتَهُ ومُسْلِمٌ وَجْهَهُ إلى البَلَدِ
تلقانا في كتاب (لَيْسَ) المَخْطوط كما في حاشية المحقق روايةٌ أخرى هي:
كُلُّ امرئٍ تارِكٌ أَحِبَّتَهُ
وإذا كان (البلد هنا بمعنى القبر) فإنَّ السياق الداخليّ يُرَجِّحُ (فاقِدٌ) على (تارِكٌ).
تقتضي نصوصُ التراث التلبُّثَ والتَّدَبُّر والاعتصام بمنهج فحص السياق الداخلي والخارجي وموروث العربية المعجمي للِفَصْل في تحديد المعنى وتحريره وضبطه.
وأَنْتُم صباحًا غَدًا مِثْلُهُمُ وَبَزْلُ الجِمال تَزُمُّ الخَفاقا
إذ إنَّ ( الخَفاقا) تصحيفٌ صوابُهُ ( الحِقاقا) جَمْعُ حقة وهي صغار الإبل؛ فالشطر الثاني تذييل وتمثيل أراد به الشاعر أنْ يهجو جُنْدَ معاويةَ مؤكِّدًا أنَّ جُنْدَ عليّ ككبار الإبلِ وهي تزمُّ أو تبذُّ أي تغلب صِغارَها.
وهو، على ما ترى، تصحيفٌ مُفْضٍ إلى الانتقال من مادة إلى أخرى؛ من (حقق) إلى (خفق)!
إذ ينبغي أن يُستدرَك إثباتُ كلمة (جُبالة)، وتصحيحها بكلمة ( جَهالة) بما يتفق والمعنى والسياق الوارد فيه اللفظ، وهو الثابت في مخطوط " اختيار المنظوم والمنثور" لابن طيفور الذي نقل عنه أحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب.
وبَعْدُ؛
فهذا بعض ما يدلّ على ما اجتهدنا فيه للتنبيه على هذه المعضلة المتمثّلة في اختلاف الروايات وما وقع في النصوص من التحريف والتصحيف، وهو من دون شك يشخص مشكلة من مشاكل العربية، ومعضلة من معضلات نصوصها، أسهمت بشكل مباشر في تعقيد عمليات المعالجة المعجمية، وتطلبت دقة وتحقيقا وصبرا وتأنيا من أجل أن تخرج مواد المعجم بريئة من كل عيب ونقص.
يُعدّ التأريخ في أي معجم يُرَادُ له أن يكون تاريخيّا، أهمَّ عنصر يحدِّدُ نسبتَه إلى المعجميّة التاريخيّة، أو عدمَ نسبته إليها. والتأريخ يعني أن يؤرِّخ مؤلفُ المعجم لظهور اللفظ المعالج فيه لأوّل مرّة في نصّ من النّصوص، وليس في اللغة عامة، لأنّ ظهورَه في نصّ يتلو ظهورَه في اللغة؛ إذ لا بدّ له بعد ظهوره من أن يُسْتَعْمَلَ ثم ينتشرَ استعماله بين أفراد الجماعة اللغوية حتى يتخذ حيّزه في معجمها ويُدوّنَ في النصوص، ثم يؤرّخُ لظهور المعاني التي ارتبطت بذلك اللفظ عبر تاريخ استعماله في النصوص أيضا. فإنّ المعاني التي يفيدها اللفظُ الواحدُ لا تظهر في اللغة، ثمّ في الاستعمال دفعةً واحدةً، بل هي تظهرُ بالتَّدريج في أوْقاتٍ متَعَاقبةٍ من تاريخ اللغَة. والمعجم يكون تاريخيّا إذن إذا أُرِّخَ فيه للألفاظ ولمعانيها حسب ورودها في النّصوص بتتبُّع ما طرأ عليها من التّحوّل والتطوّر الدلاليّيْن عبرَ العصور. فإنّ اللفظ الواحدَ يُسْتعْمَلُ أوّلَ ما يُستعمَلُ أحاديَّ المعنى، وغالبًا ما يكون ذلك المعنى حقيقيّا، ثم تُسْنِدُ إليْه الجماعةُ اللغوية عبرَ التّاريخ معانيَ جديدةً تكون مجازيَّة، وتلك المعاني يُوَلَّدُ بعضُها من بعض عادةً، لكنّها تكون ذاتَ علاقة ما بالأصْل الذي تفرَّعتْ عنه. وتلك المعاني المولَّدةُ لا تظهرُ في وقتٍ واحدٍ، بل تظهرُ في أوقاتٍ مختلفةٍ من حياة اللغة. وإذن فإنّ اللفظَ يظهرُ في اللغة أوّلاً، وغالبًا ما تكون بدايةُ ظهوره مجهولةً، ثم يَستعمِله أفرادُ الجماعة اللغوية، وينتشِرُ بينهم حتى يُدَوّنَ في نَصّ، والنّصُّ الأوّل الذي يُدوَّنُ فيه يكونُ الشاهدَ الأوَّلَ على ظهوره في التّاريخ. ودور مؤلف المعجم التّاريخي هو أن يؤرّخ لظهور الألفاظ لأوّل مرّة في النصوص، وأن يؤرّخ لظهور المعاني الجديدة المسنَدة إليها، في نطاق تأريخه لتطوّرها الدلاليّ.
ولا شكّ في أنّ التأريخ لألفاظ اللغة العربيّة ولتطوّر معانيها صَعْبٌ. والصّعوبة ناتجةٌ عن جملة من العوامل، أهمّها:
فإِنّ اللغةَ العربيّة تكاد تكون اليوم اللغة الحيّة الوحيدة التي مضى عليها في الاستعمال أكثرُ من عشرين قرنا دونَ أن يَلْحَقَ قوانينَها وقواعدَها العامّةَ الصوتيّةَ والصرفيّةَ والتركيبيَّة النّحويّة تغيّرٌ ذو أهميّة بالنّسبة إلى نظامها، فلمْ تعرف ما عرفته لغاتٌ قديمة مثل الفارسيّة واليونانيّة – ولغاتٌ حديثة مثل الفرنسيّة والانكليزية والألمانيّة من مظاهر التغيّر التي جعلتها تقسّم إلى مراحل "قديمة" و"وُسْطى" و"حديثة". على أنّ نظام العربيّة المعجميّ لم يكن له من الاستقرار ما كان لأصواتها ولأبنيتها الصرفيّة ولتراكيبها النّحويّة؛ فإنّ المعجم العربيّ كان وما زال كشْفًا مفتوحًا دائم التطوّر والتّجدّد بما يضاف إليه من الوحدات المعجمية الجديدة إمّا بواسطة التّوليد المعجميّ –سواء كان عفويّا بأقلام الكُتَّابِ وعلى ألْسنة المستعملين لها وسيلةَ اتّصال، أو كان مقصودا من وضع المؤسَّسات المجمعيّة والجامعيّة– أو بواسطة الاقتراض المعجميّ الذي يُلْجَأُ إليه عادة لسدّ الخانات المعجميّة أو المصطلحيّة الفارغة في المعجم العامّ أو في المعجم المختصّ، وخاصّة أثناءَ عمليّات التّرجمة. لكنّ المعاجم العربيّة –قديمها وحديثها أيضا– لم تَصفْ هذا التطوّر إذ لم يُدَوّن مؤلّفوها المستعملَ من ألفاظ اللغة في مختلِف عصور استعْمالها، وذلك لأسبابٍ مذهبيّة معلومةٍ تظهر في تقسيم العربيّة إلى عربيّة عصر الاحتجاج، وعربيّة ما بعد عصر الاحتجاج. وقد طُبِّقَتْ في جمع المدوّنة المعجميّة التي اشتملت عليها المعاجم العربية القديمة خاصة معاييرُ فصاحيّةٌ تُفَضِّلُ من المستويات اللغويّة الأربعة الكبرى التي تُصَنَّفُ إليها وحدات المعجم –وهي الفصيح والمولّد والعاميّ والأعجميّ المقترض– مستويي الفَصيح والأعجميّ، لكنّها لا تأخذ من الأعجميّ إلاّ ما نُسمّيه "الأعجميَّ الأدبيَّ" وتمثّله المُقْتَرَضَاتُ الواردة في النّصوص الفصيحة المنتمية إلى عَصر الاحتجاج، وخاصة في الشّعر وفي القرآن الكريم والحديثِ النبويّ؛ وقد أُهْمِلَ العاميّ –وإن كانتْ نماذج منه غيرُ قليلة موجودةً في كتاب العين للخليل بن أحمد– والمُوَلَّدُ. ولئن كان لإهمال العاميّ ما يُسوِّغه لأنه في جوهره تحريفٌ للفصيح في بعض مظاهره الصوتيّة والصرفيّة والدلاليّة فإنّ إهمال المولّدِ لا مسوِّغ له. فإنّ كلَّ ما ظهرَ بعد القرن الثاني الهجريّ / الثّامن الميلاديّ من الألفاظ والمصطلحات في الحواضر خاصّة كان من المولّد الدّالّ على حيويّة اللغة العربيّة –بوصفها لغةً حيَّة في الاستعمال– وعلى تطوّرها؛ فإنّ المولّد فيها دالٌّ على تجاوزها لمرحلةٍ كانت فيها لغةً واصفة للمَلَكَةِ الشعريّة الأدبيّة العربيّة مضافًا إليها ما عُرِفَ بالعلوم الإسلاميّة مثل علوم القرآن والحديث والفقه والكلام وعلوم اللسان –وكلّها ذاتُ صلة مباشرة أو غيرِ مباشرةٍ بالكتاب والسنّةِ– إلى مرحلةٍ جديدةٍ أصبحتْ فيها واصفةً للحضارة والصّنائع والعلوم الدقيقة منذ أواسط القرن الثاني الهجريّ في المشرق وفي المغرب على السّواء. ولم يكن المولَّدُ خارجا عن الفصيح أو مفْسِدًا له بل كان امتدادًا له ومنتمِيًا إليه في أنظمَته الصرفيّة والنّحويّة والمعجميّة. وما حدث إذن من تطوّر في العربيّة المولَّدة بعدَ عَصرِ الاحتجَاج يُعَدُّ تطوُّرا في العربيّة الفصحى ذاتِها. وهذا الامتدادُ التطوّريّ لاستعْمال العربيّة في الزّمان إضافةً إلى امتداد استعمالها في المكان قَد عسَّرَ إنجازَ المعجم التّاريخيّ للغة العربيّة.
ولهذا العنْصر علاقة بما نُسمّيه "مَصادرَ الجَمْعِ" في تأليفِ المعجم، أي المصادر التي يعتمِدها المؤلّف في جمع مادّته المعجميّة التي يدوِّنها في معجمه. والمصادرُ في اللسانيّات المعجميّة الحديثة هي النّصوص التي وردتْ فيها الألفاظُ التي تُجْمَعُ لتُوضعَ في المعجم. واعتماد النّصوص لاستِخراج الألفاظِ منها قد وَلّد مصطلحًا معجميّا آخرَ هو "المُدَوَّنَة". ولمصطلح المدَوّنة في التّأليف المعجميّ مفهومَان:
(أ) المدوّنَة النّصّيّة وهي تشتمل على النّصوص المكتوبة التي يرجِع إليها مؤلّفُ المعجم لاستقرائها واستخراج الألفاظ منها؛
(ب) المدوّنة المعجميّة، وهي الرّصيدُ المعجميّ الذي يستخلصه مؤلّف المعجم من المدوّنة النّصيّة.
والصّلةُ بين المدوّنتين في تأليف المعْجم التّاريخيّ وثيقةٌ لأنّ قابليّة التأريخ للألفاظ المكوّنة للمدوّنة المعجميّة أو عدم قابليّته مرتبطانِ بتأريخ النّصوص التي تكوّن المدوّنة النّصيّة. فإذا كانت النّصوصُ المستقْراةُ مؤرّخة سهُل تأريخ الألفاظ والشواهد المستخرجة منها، وإذا كانت غير مؤرّخة صعُب التأريخ للشّواهدِ وظهور الألفاظ فيها. ولا نعلمُ أنّ علماءَ العربيّة قد أعاروا مسألة تأريخ النصوص اهتمامًا يُذْكَرُ. أمّا مؤلّفو المعاجم منهم فقد اعتمدوا في الغالب مصادرَ معجميّة سابقة لهمْ قد ذكروها في مقدّمات كتُبهمْ، قد نقلوا عنها نقلاً حرفيّا، فكانت مدوَّناتُهم النّصيّة هي المعاجم السّابقة لهم، فصحّ فيهم القولُ "إنّ اللاّحقَ منهم ينقلُ عن السّابق"؛ وأمّا مؤلّفو كتب طبقات الشّعراء فإنّ تصنيفهم للشّعراء كان تصنيفًا "موْضوعيّا" وليس تصنيفًا تأريخيّا رغمَ محاولتهم التفريقَ بين الجاهليِّين والإسلاميِّين. وقد اهتمّ علماءُ العربيّة القدامى بتدْوين أسماء الشّعراء الجاهليّين وبجمع أشعَارهم واختيارِ ما جادَ في نظرهم منها في مجاميع شعريّة. وكانت أعمالهم في الجمْع تشبِه التّحْقيقَ العلميَّ في العصر الحديث لأنّهم كانوا يقارِنون بين الرّواياتِ ويثبتون أفضلَ القراءات. ولكنّ عنايتَهم بالجمْع والتّدوين لم توازِها عنايةٌ بالتأريخ للشّعر ولا بالتأريخ للشّعراءِ.
فإذا كانت النّصوص المعتمَدة في التأريخ للمعجم الفرنْسي والمعْجم الانكليزي صحيحةَ النّسبَة إلى أصحابها –وخاصَّة لقرب عهْدها إمّا بالتأليف وإمّا بالنشر– فإنّ النّصوص العربيّة –وخاصّة الجاهليّةَ– تثيرُ جملةً من المشكلات التي قد تَصل إلى الشّكّ في الوجود التّاريخيّ لبعض الشّعراء الذين يَنْسِبُ إليهم بَعضُ المصادر نُصوصًا. وللمسْألة علاقةٌ بقضيّة نقديّة قديمة قد أحيَاها المحدَثونَ وكانت لهم منها مواقفُ مُتباينةٌ، هي الشكّ في الشّعر الذي قيلَ في فترة مهمَّة منْ تاريخ العربيّة هي الفترةُ الجاهليّةُ. وللمحدَثين مِنْ هذه القضيّة ثلاثةُ مواقفَ: موقفٍ أوَّلَ مُتطرِّفٍ يذْهبُ إلى رَفض جُلِّ الشّعرِ الجاهليّ ويراهُ من اختلاقِ الرُّواةِ وابتداعِهم لأسبابٍ قَبليَّةٍ وسياسيّة أو لغَايَاتٍ قَصَصِيَّةٍ؛ فهو إذنْ لا يمثِّل لغة الجاهليّين بل يمثّل لغةَ الذين اختلقُوه بعْد ظهور الإسلام؛ ومَوقفٍ ثانٍ مُتَطرّفٍ أيضا يذهب إلى قبولِ جلّ ما وصلنا من الشّعر الجاهليّ بوصفه وثيقةً مكتوبةً لا تقبل الإسْقاط أو الإهمال، وأصحابُ هذا الموقفِ لا تعنِيهِم تاريخيَّةُ الشُّعراء أو تاريخيَّة الأشْعارِ التي تُنْسَبُ إليهم، بل تعنيهِم النّصوصُ ذاتُها بوصفها نصوصًا أدبيّة قائمةَ الذّات رغمَ أنّهم قد يتشكَّكُون في نسبتها إلى أصحابها؛ والموقفُ الثّالثُ مَوقفٌ وسَطٌ مُعتَدِلٌ يرى في الشِّعر الجاهليّ حقيقةً تاريخيّة لا شكّ في وجودها لكنْ ينبغِي للباحث،وخاصَّةً لجامعِ ديوانِ شَاعرٍ مّا أو ديوانِ قبيلةٍ من القبائل، أو لمؤلّفِ معجم يقومُ على التأريخ للألفاظ ومعَانِيها،ألاّ يُسلّمَ تسليمًا تامّا بصحّة رصيدٍ غيرِ قليلٍ ممّا وصلنا منْه.
وظاهرةُ نحْلِ الشِّعر قديمةٌ معروفةٌ في العربيّة. ومن الأدلّة على وجودِها تقْوِيلُ القدماءِ آدَمَ شِعرًا بالعربيّة في رثاءِ ابنِه هابيل، وكأنّ اللغَةَ العربيّة كانت موجودة منذ خَلَقَ اللهُ آدمَ ! وقد نبّه القدماءُ إليها وانتقدوها واحترزوا منها في حديثهم عن الشّعراء وشعرهم. ومن أشهر من تحدث عنها من القدماء ابنُ سلاّم الجمحي منذ بداية القرن الثّالث الهجريّ/التاسع الميلاديّ، ومن أهم أسباب النحل تقوُّل الرواة وتزيُّدُهم، وقد خَصّ بالذّكر من الرّواةِ "المتَزَيِّدينَ" اثنيْن هما حمّاد الرّاوية (ت. 156 هـ/772 م)، وقدْ كان شاعِرًا مُجيدًا قادرًا على قَوْلِ الشِّعر على مذاهبِ الشُّعراء ونسبتِه إليْهم؛ ومحمّد بن إسحاقَ بن سيّار (ت. 151 هـ/768 م). ولم يكف ابن إسحاق هذا التزيد على شعراء معروفين بل نسب أشعارا إلى أناس –رجالا ونساء– لم يقولوا شعرا قطّ.
ولا نُريد أن نتتبّع هؤلاء الرّواةَ وآثارَهم في الشّعر الذي وصلنا منحُولا مصنُوعًا بلْ نريدُ أن نهتمّ بظاهرةٍ أخرى نراها أخطرَ من نحلِ الشِّعر إلى شعراءَ ذوي وجودٍ تاريخيّ حقيقيّ، هي ظاهرةُ اختلاق شعراءَ واختلاقِ شِعرٍ يُنْسبُ إليهم، ثم يُدْرَجُون في كتُبِ الأدَب وفي المختارات الشّعريّة فيصيرونَ أشخاصًا مُعترفًا بوجودِهِمْ. ونمثّل لهذه الظّاهرة بمثالٍ واحدٍ مشهور هو "بِشْر بنُ عَوَانَة العَبْدِيّ".
وهذا الاسمُ –بشر بنُ عوانة– لا وجودَ له في التّاريخ بل ابتدعَه بديعُ الزّمانِ الهمَذاني (. 398 هـ/1008 م) لغايَةٍ قَصَصِيَّةٍ وجعله في إحدى مقاماته هي "المقامة البِشْريّة" بَطلاً عَاشقاً وفارسًا شُجَاعًا، وقال على لسانه قصيدةً من أربعة وعشرين بيتا هي من جيّد الشعر، يَصف فيها مصارعتَه لأسدٍ ضارٍ وتغلّبَهُ عليه. فهو إذنْ شخصيّة مُبْتَدَعَةٌ مْختلَقة لغايات فنية مثلما يَبْتدِعُ أيُّ روائيّ أو قَصّاص اليومَ بطلاً لقصّة أو رواية يكتبها، ولم يكن له أيّ وجود في أيّ مَرْجِعٍ أو نصّ قبل بديع الزمان ومقاماته. وقد انْطلتْ حيلةُ بَديع الزّمان الإبداعيَّةُ على علماءَ عاشوا بعْد القَرن الرّابع الهجريّ / العاشر الميلاديّ فذكروه، وذكروا القصيدةَ المنسوبَةَ إليه، أو بعضا منها، في مختاراتهم، وعدّوه شاعرا جاهليّا، منهم ابنُ الشَّجَري (ت. 542 هـ/1147 م)في أمَالِيهِ؛ وابنُ ميْمُون (ت. 597 هـ/1201 م) في مُنْتَهى الطّلَب؛ وابنُ أبي الفرَج البَصري (ت. 656 هـ/1258 م) في الحماسة البصريّة؛ والعُبيْدي (من القرن 8 هـ/14 م) في التذكرة السعدية؛ وضياءُ الدّين ابنُ الأثير (ت. 637 هـ/1239 م) في كتابه المثَلُ السّائر؛ فقد ذهبَ به اعتقادُه بأصالة بِشْرٍ وقصيدتِه إلى القوْل بتقليدِ البُحْتُرِي له في وصْفِ الأسد! فهذا إذن نوعٌ من النّحْل ليس من الصَّعبِ معالجتُه ما دَام النّاحِل مَعروفًا وهو البديعُ الهمذاني، وذلك بأنْ تُنسَب القصيدةُ - النّصُّ إلى الهمَذاني وأنْ يُؤرَّخَ لألفَاظِها في المعْجم التاريخي بحوالي 395 هـ/1005 م، وهي السنة التقريبية لانتهاء الهمذاني من وضع مقاماته.
وتأريخ النّصوص التي تكوّن ما سمّيناه المدوّنة النّصيّة مرْحلةٌ تسبق تأريَخ الألفاظ التي تكوّن المدوّنة المعجميّة وتُدوّن في المعجم التّاريخيّ؛ فإنّ الألفاظَ التي يؤرَّخ لظهورها في الاستعمَال لم تُوجَدْ في اللغة مستقلّة عن النّصوص التي ظهرتْ فيها. والتّأريخ للنّصوص نَوْعان:
ونعني بالقريب من الدقيق ما اقترب اقترابًا كبيرًا من التّاريخ الصحيح؛ ويُعتَمَدُ فيه على:
فإذا تعذّر التّأريخُ الدقيق أو القريبُ من الدقيق اعتمدنا التأريخ التقريبيّ، وأيْسرُ تاريخ نؤرّخ به لنصّ ما تأريخا تقريبيّا هو سنةُ وفاةِ صاحبه، لأنّ النّص مهما غمض أمرهُ قد قيل قبلَ وفاة مؤلّفه. ولكنّ المسألة لا تخلو من التّعقيد بالنّسبةِ إلى المرحلةِ الأولى، أي حتّى نهاية القرن الثّاني الهجريّ. فإنّنا إذا استثنيْنا الشُّعراءَ الإسلاميّين الذين تُعْرَفُ في الغالبِ تواريُخ وفَياتهم فإنّ أغلبَ الشُّعراء الجاهليّين وكثيرا من الشّعراء المخضرَمين – وخاصّة المقلّينَ منهم – لا يمكن التأريخُ لوفيَاتهم بدقّة، ونحن عندئذ مضطرّون إلى تحديدِ تاريخ تقريبيّ لسنةِ الوفَاةِ باعتِمَادِ قرائنَ وشواهدَ ثابتةٍ، مثلَ صلاتِ الشَّاعر ببعض شخصيّات عصره أو ببعض أحْداثه التي شارك فيها، واستعمَال ذلك التاريخ في تأريخ النّص.
على أن لصفة "التقريبيّ" مفهومًا آخر نجدُه في المعاجِم التاريخيّة الحديثة هو التأريخُ بالعبَارة مثلَ "بداية القَرْن" و"منْتَصَفِ القَرْنِ" و"آخِرِ القرْن" و"النّصفِ الأوّل من القرن"...، وذلك إذا استَعْصى تحديدُ الحقبة التي قيل أو كُتب فيها النّصّ باعتماد تاريخ الوفاة. وقد أقرّ المجلسُ العلميّ لمعجم الدّوحة التاريخيّ التأريَخ بالعبارة لكنّه فضل أن تُحَوَّلَ العبارات في مرحلة المعالجة المعجميّة للمداخل إلى أرقام بالسّنوات وفقَ وَسَطِ المدّة الزّمنيّة التي تُشيرُ إليها العبارةُ، ومثالُ ذلك أنّ عبَارة "منْتصف القَرن 1 هـ" تُعوّضُ بـ"نحو 50 هـ"، و"النّصف الأوّل من القرن 2 هـ" تعوّض بـ"نحو 125 هـ"، و"النّصف الثّاني من ق 2 هـ" تعوّض بـ"نحو 175 هـ"... إلخ، و"الرّبُع الأوّل من ق 2 هـ" بـ"نحو 113 هـ"، و"الرّبع الثّاني من ق 2 هـ" بـ"نحو 138 هـ"، و"الرّبع الثّالث من ق 2 هـ" بـ"نحو 163 هـ"، و"الرّبع الأخير من ق 2 هـ" بـ"نحو 188 هـ".
والتّأريخ للألفاظ ولمعانيها إذنْ مرحلةٌ لاحقَةٌ لتأريخ النّصوص لأنّ المدوَّنة المعجميّة المؤرّخة كما ذكرنا تُستخْرجُ من المدوَّنة النَّصيَّة المؤرّخَة. واستخراجُ المدَوّنة المعجميّة يكونُ باستخراج الألْفاظِ منَ السِّياقاتِ التي وردت فيها في النّصوص المعالجة. والسِّياقُ هو الوَحْدة النّصّيّة الدُّنيا التي تشتمل على اللفظِ في محيطه الدّلالي التّامّ، وهو يقومُ بوظيفةِ الشَّاهِد على استعمال اللفْظ في معنًى من المعاني التي أسنَدتْها إليه الجماعةُ اللغويّة. وتُرَتَّبُ السِّياقاتُ المشتملةُ على الألفاظ عندَ استخراجها ترتِيبًا تاريخيًّا تصاعُديّا من الأقْدَم إلى الأحدث، فيمَثِّلُ كلُّ لفظ فرعًا أو جذْعًا منتميًا إلى أصل جذرِيّ تتّصل به بقيّة الفروع أو الجذوع التي تمثّل معَ اللفظِ المعالج حزمةً اشتقاقيَّة. ويُحْتَفَظُ عند المعالجة بالألفاظ في أقدم استعمالاتها مع أقدم المعاني المسندة إليها سواءٌ كانت معانيَ أصُولاً أوْ كانتْ معانيَ ثوانيَ فُرُوعًا قد حملها اللفظُ أثناء تاريخ استعماله. وأمّا استعمالاتُ اللفظ المكرّرةُ فتُحْذَفُ ولا يُعْتَدُّ بها.
ونَضرب على هذا المنْهج في التأريخ مثالاً هو "رَامِحٌ"، إذ يُرْجِعُه ابن فارس في المقاييس – كما يُرجِع فعلَ "رَمَحَ" – إلى الاسْمِ "الرُّمْحِ"، وهو السّلاحِ الذي يُطْعَنُ به. وقد أسْندَ إليه ثلاثةَ مَعانٍ كلّها ذاتُ صلةٍ بالرُّمْحِ، هي:
ونضيف إلى هذه المعاني ثلاثة معانٍ أخرى قد أظهرتها المدوّنة النّصيّة: هي:
والبحثُ عن لفظ "رامِحٌ" في المدوّنة النّصيّة للحقبة الجاهليّة والحقبة الإسلاميّة حتى نهاية القرن الثّاني الهجريّ يُظهرهُ مسْتعْمَلاً في المعاني الآتية:
نَرمِي برَامِحنَا خَصَاصَةَ بَيْتِنَا *** زَالتْ دعَامَةُ أيّنا لم ينْزِل
بِزُهاءِ ألْفٍ ثمَّ ألْفٍ *** بينَ ذِي بَدَنٍ ورَامِحْ
وكمْ نفَّرتْ منْ رامحٍ متوضِّحٍ هِجانِ القرى ذي سَفْعةٍ وخدامِ
محاهنَّ صَيِّبُ نَوْءِ الرَّبيعْ *** مِنَ الأنْجُمِ العُزْلِ والرَّامِحَهْ
مِنَ الحُقْبِ لاَحَتْهُ برَهْبَى مُرِبَّةٌ *** تَهُزُّ السَّفَى والمُرْتِجَاتُ الرَّوَامِحُ
نَستنتجُ ممّا تَقَدم أنّ التّأريخ للألفاظ في المعْجم التاريخيّ يمرّ بثلاَثِ مَراحلَ: الأولى هي تكوينُ المدوّنة النّصيّةِ التي يميَّزُ فيها بيْن النّصوصِ الصّحيحَة النّسْبةِ إلى أصحابها والنّصوص المنْحُولة، فتُعْتَمَدُ الأولى وتهملُ الثّانيةُ لما لذلك مِن تأثيرٍ في تأريخ ظهورِ الألفاظِ ومعانِيها في النُّصوص؛ والمرحلةُ الثّانِية هي التأريخُ للنّصوص باعتمادِ مقاييسَ دقيقةٍ صارمَةٍ وخاصة بالبحث في منَاسبات القوْل وظروف تأليف النّصوص، فإذا تيسَّر ذلك اعتمدْناه ليكون التّأريخ دقيقا أو قريبًا من الدّقّة، وإن لم يتيسّر اعتمدنا تَواريخَ وفاة الشّعراءِ والمؤلّفين فيكون التّأريخ تقريبيّا؛ والمرحلة الثّالثة هي استِخراجُ المدوّنةِ المعجميّة المؤرّخة، وتشتملُ على الألفاظ ومعانِيها مُؤرّخة تأريًخا تطوُّريّا تصاعُدِيًّا انطلاقًا من أقْدَم استعمالٍ وانتهاءً بأحْدَثِ استعْمال.
والطّريقَةُ التي تُتـَّبعُ في التأْريخ التطوريّ هي التي وصَفْنَاها في مختلفِ السِّياقات التي ورد فيها اللّفظُ وفي مختلف المعَاني التي ارتبطتْ به، وتُصنَّفُ تلك المعَاني بحسبِ السِّياقاتِ المؤرّخَة التي ورَدتْ في النّصوص، ويُدوّنُ لكلّ مَعْنى أقْدَمُ ظهورٍ له في أقْدمِ شاهدٍ من الشّواهد المؤرّخَة، وتـُحْذفُ بقيّة الشّواهدِ التي يتكرّرُ فيها المعنى نفسُه في تواريَخ لاحقة.
كانت قضيةُ ترتيب الألفاظ قضية محورية شائكة في المعجم العربي القديم، وما تزال كذلك في أيامنا؛ فقد جعلَ ابنُ منظور (ت. 711هـ/1211م) سببَ تأليف "لسان العرب" ما في "تهذيب اللغة" للأزهري، و"المُحْكَم" لابن سِيدَه من سوءِ الوضعِ؛ "فأهملَ الناسُ أمرَهما، وانصرفوا عنهما"، مع أنهما "من أمَّهات كتب اللغة"، كما يقول. ولا يبدو أن المعجم العربي الحديث قد وجَد حلا لهذه القضية؛ إذ ليس فيه ترتيبٌ واحدٌ للألفاظ تحت الجذور، كما أنه لم يكن في المعاجم العربية القديمة ترتيبٌ واحد، بل إن مبدأ الترتيب الجذري نفسه قد وُضِع موضع المساءلة في بعض المعاجم الحديثة، فصار للترتيب منهجان يتنافسان، ولكل واحد منهما مسوِّغاته:
الترتيب الألفبائي لألفاظ المعجم جميعا ترتيبٌ حُسِم أمرُه منذ زمان طويل في المعجم الأوروبي؛ فلا نقاشَ فيه، بل إن نظام الترتيب الألفبائي صار مكوِّناً من مكوِّنات تعريف لفظ (المعجم) في اللغات الأوروبية.
أما المعجم العربي، فقد بدأت بوادرُ تغييرٍ في ترتيب مداخله في منتصف القرن العشرين حين تخَلّى بعضُ صُنّاع المعاجم من العرب عن ترتيب الجذور، وعمد إلى ترتيب ألفبائي للألفاظ في تقليد واضح وصريح للمعجم الأوروبي، وإنِ اعتلَّ أحياناً في محاولة تدبُّرِ الأعذار لترتيبه، بأنَّه صَنَعَ ما صَنَعَ قياساً على صنيع عددٍ من أصحاب المعاجم العربية القديمة من مثل الشريف الجرجاني (ت. 816هـ/1413م) في "التعريفات"، وأيوب بن موسى الكفوي (ت. 1094هـ/1683م) في "الكليات"، والتهانوي (ت. 1158هـ/1745م) في "كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم"، وغيرهم، وهي من معاجم المصطلحات، وليست معاجمَ للُّغةِ العامة. وقد اعتَلّوا جميعاً بصعوبةِ البحثِ في المعاجم المبنية على الجذور، وهو اعتلالٌ صحيحٌ لا ريبَ فيه. غير أن الترتيب الألفبائي في العربية ليس بالسهولة التي يمكن أن تُتصوَّر لأول وهلة، لأنه يثيرُ إشكالاتٍ جوهريةً نكتفي بثلاثةٍ منها:
الإشكالُ الأولُ تشتيتُ ألفاظ الأسرة الواحدة. وكان المعترِضون على هذا الترتيب أشاروا إلى هذا الإشكال، وعلَّلوه بأنَّ العربية "لغةٌ اشتقاقية". وهو تعليلٌ غيرُ دقيق؛ فالانكليزية والفرنسية وغيرهما أيضاً لغاتٌ اشتقاقية. وإنما الاختلافُ في طبيعةِ هذا الاشتقاق، لأنه في العربية اشتقاقٌ داخلي عموما، وهو في هذه اللغات اشتقاقٌ خارجيٌّ قائمٌ على إلصاق زائدةٍ بالمُشتقِّ منه، فيبقى الأصلُ المكوَّنُ من كتلةٍ متوالية من الصوامت والصوائت على صورته. أما العربيةُ فقد بُنِيَتْ ألفاظُها على جذورٍ مكوَّنةٍ من الصوامت دون غيرها. وغالِباً ما يكونُ الاشتقاقُ فيها بتكسيرِ الكلمة، أي بإعادتها إلى المادة الصامتة الأصلية التي تشكَّلَ الجذرُ منها. بهذا يختلف الاشتقاقُ في العربية اختلافاً جوهرياً عنه في الفرنسية والإنكليزية، فلا يناسب الترتيب الألفبائي مشتقاتِه، لأنه يُشتِّتُ عناصرَ الأسرةَ الواحدةَ ويمزِّقُها شَرَّ ممزَّق، فلا يكاد يبقى لفظٌ منها بجانب أخيه، كما هو ظاهرٌ بأدنى نظرٍ في اختلاف ألفباءِ أبنية الأفعال ومشتقاتها: (فعَّلَ، فاعَلَ، أفْعَلَ، تفعَّلَ، تفاعَلَ، انفعَلَ، افْتَعلَ، افْعَلَّ، اسْتفْعَلَ، فاعِل، مفعول، فِعال، مفاعَلة،...). وهذا الضرر الذي يلحق بمفردات الأسرة اللغوية الواحدة في الترتيب الألفبائي أكبرُ بكثير من ذاك الذي قد يلحق بمفردات الأسَر في لغات إلصاقية مثل الإنكليزية والفرنسية، لأنَّ الاختلاف بين ألفاظ الأسرة الواحدة في هذه اللغات غالباً ما يكون بعد الحرف الرابع أو الخامس منها، ما يسمح بتتابعها إلى حد كبير في الترتيب الألفبائي، كما يدل عليه تتابع المداخل التالية في معجم "روبير" الفرنسي لعدد من الألفاظ المرتبطة بالكتابة: Ecrire, Ecriteau, Ecritoire, Ecriture, Ecrivailler. Ecrivailleur, Ecrivaillon, Ecrivain, Ecrivasser, Ecrivassier. أما الألفاظ العربية التي من أسرة (ك ت ب) مثل: "كَتَبَ"، و"كاتب"، و"مكتوب"، و"مكتب"، و"كاتَبَ"، و"استكتب"، إلخ. فتتناثر في المعجم الألفبائي في مواضع متباعدة تماما؛ فلا يستقيمُ قياسُ الترتيب الألفبائي في العربية على ترتيب المعجم الأوروبي.
الإشكال الثاني: كثرةُ بدائل الكلمة العربية الواحدة؛ إذ كثيرا ما تأتي الكلمةُ العربية الواحدة على صورٍ مختلفة تقضي الصناعة المعجمية بأن يكون لها مدخل واحد باعتبارها صوَرا متعددة لكلمة واحدة. مثال ذلك ألفاظُ (الشَّمِيل) و(الشَّوْمَل) و(الشَّيْمَل) لريح الشمال، وهي بدائل يسمح الترتيبُ الجذري بالجمع بينها في مكان واحد؛ إذ ترِدُ تحت (ش م ل). أما الترتيب الألفبائي فيجعلها في أماكن متباعدة في باب الشين؛ إذ هي تحت الشين والميم مرة، وتحت الشين والياء مرة ثانية، وتحت الشين والواو مرة ثالثة. وشبيهٌ بهذا ما يحدث في جموع التكسير، وما أكثرَها في العربية! فقد تجد للَّفظِ المفرد جمعَين أو ثلاثة، أو أربعة، أو فوق ذلك؛ إذ يُجْمَعُ لفظُ (الشيخ) مثلا على (أشياخ) و(شِيخان)، و(شُيوخ)، و(شِيَخَة)، وشِيْخَة)، و(مَشْيَخة)، و(مَشِيخَة)، و(مِشِيخَة)، و(مَشْيوخاء)، و(مشايخ)، و(مَشْيُخاء). وهي تنتظمُ جميعا تحت جذر (ش ي خ) في المعجم الجذري. وليس الأمرُ كذلك في المعجم الألفبائي. فإنْ خُصِّصَتْ لها مداخلُ في مواضعها من الترتيب الألفبائي للألفاظ انتقضتْ قاعدةٌ مطَّرِدةٌ في صناعة المعاجم تقضي بأنْ لا يُخصَّصُ مدخلٌ لِما يُعْتَبَرُ صُوَرا مختلفةً للكلمة الواحدة، وتضخَّمَ المعجمُ تضخُّما كبيراً بتكثير مداخله؛ إذ يُضطَرُّ فيه إلى تخصيص مدخل لكلمة (شيخ)، وعشرةِ مداخلَ مختلفةٍ متفرقة لجُموعه. وإنْ قيل إنها يمكن أن توضع بجانبِ مفْرَدِها فإنَّ هذا لا يُغني في معجم ألفبائي لا يبحثُ مستخدِمُه عن الألفاظ تحت جذورها؛ إذ لو كان عليه أنْ يبحَثَ عن جذرِ اللفظ للوصول إليه لانتقضَ الأساسُ الذي بُنيَ الترتيبُ الألفبائي عليه.
أما الإشكال الثالث فهو ما رَوَّجَ له القائلون بالترتيب الألفبائي من سُهولةِ هذا الترتيبِ ويُسْرِه، وسلَّم لهم به المعترِضون دون تدبُّر، حتى بدا كأن الأمر من البدهيات. وإنما كان ذلك لأن الداعين إليه والمعترِضين عليه قاسوه على ما ألِفوه في المعاجم الأوروبية، فحَسِبوا أنَّ البساطةَ هنا كما هي هناك، وغدا الأمرُ عند أكثرِ الناسِ مسلَّماً به، فلا يحتاجُ إلى نقاش. غير أنَّ التدقيق في المعاجم العربية الحديثة التي رُتِّبَتْ ألفاظُها ترتيباً ألفبائياً يُظْهِرُ أنَّ الأمرَ ليس كذلك. ومن أبْسَطِ الدلائل عليه أنك لن تجد معجمين عربيين يتفقان في ترتيبهما الألفبائي. وليس ممكناً أنْ تُرَتَّبَ الألفاظُ في المعجم العربي ترتيباً ألفبائياً واحداً ولم تُحْسَم بعدُ المسائلُ الجوهريةُ الضروريةُ لإنجاز مثلِ هذا الترتيب؛ فليس محسوما في ترتيب المعجم مثلا، إنْ كان الترتيبُ الألفبائي يتَّبِعُ المنطوقَ أو المكتوب؛ إذ هو يترَجَّحُ بينهما فيميلُ إلى هذا مرَّة، ويميلُ إلى ذاك مرَّةً أخرى دون نظام محدَّد. وليس محسوما عددُ الحروف في الأبجدية، وهو من بدهياتِ الترتيب الألفبائي: أهي ثمانيةٌ وعشرون أم تسعة وعشرون باعتبار الألِف الممدودة حرفا مغايراً للهمزة في مثْلِ (سالَ) و(سَأَلَ) ؟ وإن كانت الألِفُ الممدودة حرفا فما موقِعُها من الترتيب الألفبائي: أهي قبلَ الألِف (أ)، أم بعدَها مباشرةً، أم هي قبلَ الياء مباشرة، كما كان يحفظُها طلابُ المدارس في الأبجدية التي تبدأ بـِ (أ، ب، ت) وتنتهي بـِ (ن، ه، و، لا، ي) بوضع اللام قبلها للتوصل إلى النطق بالساكن؟ هذه مسائلُ لم يُقْطَعْ فيها بعدُ، ولم يتفق العلماء العربُ عليها، كما لم يُقطَع في قضيةِ الحركات وموضعِها من الحروف، وترتيبِ الحركاتِ فيما بينها. ولا يمكنُ الحديثُ عن ترتيب ألفبائي حقيقي قبل ذلك.
إنْ كان الترتيبُ الألفبائي بعيداً عن الوفاء بحاجات المعجم اللغوي العربي العام للأسباب التي ذكرْنا، فهو عن حاجات المعجم التاريخي أشدُّ بُعْداً، لأنه لا يسمحُ بتأثيل المادة، ولا بالنظرِ في تأريخها تأريخاً يأخذُ في حسابه تناسُلَ بعضِ الألفاظ من بعض؛ فقد يكون اللفظُ المشتقُّ في أول المعجم، ويكون الأصلُ الذي أُخِذَ منه في آخره. ولهذا رأينا المعجم التاريخي الفرنسي، وهو معجم يتَّبِع الترتيب الألفبائي، يتساهل في هذا الترتيب، فيجعل تحت المدخل الرئيس الألفاظ المشتقة منه دون مراعاة الترتيب الألفبائي فيها؛ فيجتمعُ عددٌ من الألفاظ في مدخلٍ واحدٍ هو أصلُ اشتقاقِها فيما يُشبه، في جانبٍ من جوانبه، اجتماعَ ألفاظ الأسرة الواحدة تحت الجذر في العربية.
أما الترتيبُ القائمُ على الجذور فأكثرُ انسجاماً مع تقليد عربي راسخ، وأشدُّ التصاقاً بهموم المعجم التاريخي في التأثيل، والتأريخ، وتناسُل الألفاظِ بعضِها من بعض. ولهذا فقد رأى معجم الدوحة التاريخي للغة العربية أنَّ اعتماد هذا الترتيب القديم أولى من الترتيب الألفبائي الذي تتَّبعه المعاجم الغربية، والذي بدأت تحذو حذوه بعض المعاجم العربية الحديثة.
بيد أن ترتيبًا قائمًا على الجذور يعني بالضرورة أن يكون المعجمُ أكثرَ تعقيدًا في ترتيب مداخله؛ فبنيةُ المعجم المبني على الجذور مركَّبةٌ من طبقتين على أقل تقدير: طبقةِ الجذور، وطبقةِ الوحدات المعجمية التي تندرج تحت الجذور. ويعني هذا أنه لا بُدَّ في البحث عن وحدةٍ معجميةٍ ما من مرحلتَين:
ويثيرُ هذا الترتيب عددًا من الإشكالات في المرحلتين:
تُرتَّبُ الجذور ترتيبًا ألفبائيًا فيما بينها في المعاجم العربية الحديثة؛ فليس فيها شيءٌ من إشكالات الترتيب الألفبائي التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، لأن الجذر في العربية مكوَّن من حروف صوامت؛ فلا تدخل فيه الحركات، ولا الألف الممدودة، ولا المقصورة، ولا غيرها من مشكلات الترتيب الألفبائي، ولكن الإشكالَ كامنٌ في تقدير الجذر نفسِه عند مستخدِم المعجم، وعند صانعه.
يتعلق الإشكالُ هنا بكفاءة المستخدِم، لأن هذه الكفاءة لا تسمحُ له في أحيانٍ كثيرة باكتشاف الجذر. وينبغي أن يكون على قدر كبير من المعرفة والتضلع في علوم اللغة ليكتشف الجذر في عدد كبير من الألفاظ، ولا سيما منها الألفاظ التي يلحقها التغيير بسبب ما يلحقها من إعلال، أو إبدال، أو همز، أو إدغام؛ فعلى صانع المعجم أن يأخذ هذا الواقع في اعتباره، وعليه في كثيرٍ من هذه المواضع المُشكِلةِ أنْ يضَعَ اللفظَ في موضعه تحت جذره، وأن يضعه أيضاً في موضعه من الترتيب الألفبائي مع الإحالة إلى جذره. مثال هذا أن يجعل للفظ (آلة) مدخلا ألفبائيا يحيل فيه إلى موضعها تحت جذر (ء و ل): (آلَة) ← (ء و ل).
وأما الإشكالاتُ المتعلقةُ بتقدير الجذر عند صانعِ المعجم فكثيرةٌ، ويمكن أن نجملها فيما يلي:
تدعو هذه الاعتباراتُ صانعَ المعجم إلى تقدير جذرٍ ثلاثي تُصَنَّفُ تحته هذه الألفاظُ مع مشتقاتها، على غرار ما قامت به المعاجم العربية التراثية؛ فصانعُ المعجم، ولو كان معجماً تاريخياً، لا يجعلُ همَّه ترتيبَ الألفاظِ باعتبار أصل اللغة ونشوئها، بل باعتبار مآلِها في الرصيد المعجمي المستخرَج من نصوصها، وباعتبار نظام الصرفِ الذي يحكُم هذا الرصيد؛ فهو لا يرتِّبُ لفظَ (المال) مثلاً، تحت (ما)، ولا تحت لام الجر، باعتبار أنَّ اللفظَ في الأصل (ما) تتْبعُها لامُ الجر التي تدلُّ على الملْكية، ولكنه يرتِّبُها تحت جذر ثلاثي لم يكن لها في أصل وضْعِها: (م و ل) باعتبار ما صارت إليه حين كوَّنتْ أسرةً اشتقاقيةً؛ فقيل: (الأموال)، و(موَّلَ)، و(التمويل)، إلخ. كما قيل: (الأحوال)، و(حَوَّلَ)، و(التحويل)، إلخ. ويُستحسَنُ في حالاتٍ كهذه أن يخصِّصَ المعجمُ لمثل هذه الألفاظ مدخلاً ألفبائياً يُحيل فيه إلى الجذر الثلاثي: (أب ← ء ب و).
جذر (ل،ج،ف)
↓
لفظ عربي (لِجاف) لفظ أعجمي (لغام) ← (لجام)
↓
جذر (ل،ج،م)
ويُدْرَجُ في هذا الصنف من المعرَّب ألفاظٌ أعجمية كثيرة دخلت العربية في عصور متأخرة، أو في العصر الحديث -وإنْ جُعِلتْ تحت "الدخيل" في بعض المعاجم- منها، على سبيل المثال، لفظُ (برْنامَج) الذي صار له جذر رباعي (ب ر م ج) حين تولَّد منه: (بَرْمَجَ) و(بَرْمَجَة)، و(مُبَرْمَج) و(برْمجيات)، وغيرها، و(الأكسيجين) الذي اشتقَّ العربُ منه (أَكْسَجَ)، و(أَكْسَجة)، و(مُؤَكْسَج)، و(هِدْروجين) الذي اشتقوا منه (هَدْرَجَ) و(هَدْرَجة) و(مُهَدْرَج)، وغير هذا كثيرٌ.
يُرَتَّبُ مثلُ هذا الصنف من الألفاظ المعرَّبة إذن تحت جذْرِه المُكتسَب. غير أنه يُستحْسَنُ أن يكون للفظِ الأول الذي ما زالت عُجمةُ أصلِه ظاهرةً فلا يُتوقع أنْ يستخرج المستخدمُ جذرَه، مدخلٌ ألفبائي كغيره من المقترَضات، ولكن يحالُ فيه إلى موضعٍ تحت الجذر: (أُكسيجين) ← (ء ك س ج).
أما مشتقاتُ هذا الصنفِ فلا تكون إلا تحت جذورها، ولا يكونُ لها مدخل في الترتيب الألفبائي، لأنها ليست كلماتٍ أعجميةً، ولم تقترضْها العربيةُ مباشرةً من لغة أجنبية، وإنما صاغتْها صياغةً عربيةً على طرائق التصريف العربي الذي يجعلها في أسرةٍ تنتظمُ فيها، وقد يخفى الأصل الأعجمي الذي جاءت منه بعد فترة من الزمان، كما هو الحال في (اللجام) ومشتقاته التي لا تكاد عُجمتُها تخطر في بال أحد. فلو جئت لتجعل هذه الألفاظ مرتبةً ترتيباً ألفبائياً باعتبار عُجمة الأصل الذي جاءت منه لخَرَجَ من المعجم. عددٌ لا يُستهان به.
المرحلة الثانية في المعجم الجذري هي مرحلة البحث عن ترتيب الوحدات المعجمية تحت الجذور. والقضيةُ في هذه المرحلة أشدُ تعقيداً، وأصْعَبُ متناوَلا. غير أنها ظلَّت على الهامش، وقلَّما حظِيَت بالاهتمام من جانب الباحثين، ومن جانب صُنّاع المعاجم أيضاً؛ فلم يتصدَّوا لها بصورة مباشرة، وقل أنْ ظهرت دراسات لهذا الجانب. ويمكن أنْ نعرِضَ بشيءٍ من الإجمال لتوجُّهات الترتيب في هذه المرحلة. فإن استبعدنا الترتيب الألفبائي للوحدات المعجمية ابتداءً، لأنه ينقض مبدأ الترتيب الجذري المعتَمَد في المعجم، أمكن لنا أن نسلط الضوء على ثلاثة أنواعٍ أخرى من الترتيب:
قد يكون هذا النوع من الترتيب كامنا في أكثر المعاجم الجذرية، وإنْ لم يكن على درجة كافية من الظهور والوضوح والانتظام. ويقوم هذا الترتيب على النظر في الروابط الدلالية بين ألفاظ الجذر الواحد فتُصنَّف الألفاظُ التي تحت الجذر في مجموعات كلُّ واحدةٍ منها مرتبطة بإحدى دلالاته. ويمكن أن يستنتج الباحث هذا التقسيم الدلالي في معاجمَ قديمةٍ مثل "المُحكَم" لابن سِيدَه (ت. 458هـ/1066م)، و"لسان العرب" لابن منظور، وفي إحدى طبعات "المنجد" في العصر الحديث.
بيد أنَّ المعاجم العربية تتفاوت كثيرا في ترتيب وحداتها المعجمية باعتبار الروابط الدلالية فيما بينها؛ فقد يقوى الرابط في هذا المعجم، وقد يضعف ويتلاشى في ذاك، حتى ليمكن القول إن الألفاظ تُنثر فيه تحت الجذر نثرا دون أي نظام؛ فعلى الباحث عن وحدةٍ معجميةٍ ما في داخل الجذر أنْ يقرأ المادةَ بأكملها للوصول إلى بغيته؛ فقد تكون في أولها، وقد تكون في آخرِها، وقد لا تكون فيها على الإطلاق. ولم تحمل المعاجم الحديثة جديدا في هذا الموضوع؛ فهي لم تتمكن من تقديم تصوُّرٍ واضحٍ لآليَّةِ ترتيبِ الألفاظ تحت الجذر الواحد، ولا يكاد النظرُ في أكثر المعاجم العربية الجذرية في القديم والحديث يسمحُ بتصوُّر خطَّةٍ واضحةٍ، وترتيب محدَّدٍ للوحدات المعجمية تحت الجذر فيها. وعليه، فإن من الصعوبة بمكان أن يصل صانعُ المعجم إلى ترتيب دلالي صارم لهذه الوحدات، وأصعبُ منه، بل من المحال، أن يصل مستخدمُ المعجم إليه، وأن يعرف موضعَ الوحدة المعجمية فيه على وجه اليقين، بل قد لا يستطيع ذلك على وجه التخمين. ولهذه الأسباب استبعد المعجم التاريخي الترتيب الدلالي.
يقوم هذا الترتيبُ على النظر في الألفاظ التي تحت الجذر الواحد باعتبار علاقات الاشتقاق فيما بينها؛ فيُبدأ بالأصل تتْبعُه مشتقاتُه. ولذلك فقد يُبدأ بالفعل، أو بالاسم، أو بغيرهما حين يكون أصلاً يُشتَقُّ منه، تَليه المُشتقّاتُ أولا بأول. فإن كان الفعلُ أصلا جاء المجرد قبل المزيد، وجاءت مشتقاتُ كلِّ صيغةٍ من الصيغ بعدها مباشرة؛ فيكون (حاكِم) و(حكيم) و(حكَم)، و(حكومة) بعد (حَكَمَ)، و(تحكيم) و(محكِّم) و(محكَّم) تحت (حَكَّمَ)، و(استحكام) و(مستحكِم) و(مستحكَم) تحت (استحكم)، إلخ.
غير أنه لا بُدَّ من أن يبقى في أيِّ ترتيبٍ صرفي قدْرٌ من التحكُّم، لأنَّ الاشتقاقَ قد لا يسمح بتقديمِ بعضِ الصِّيَغ على بعض؛ فليس في التصريف ما يُثبِتُ مثلاً أوَّليةَ اسم الهيأة على اسمِ المرَّة في ترتيب مشتقات الثلاثي المجرَّد، ولا ما يُثبتُ عكسَ ذلك. وليس فيه ما يثبت تتابعَ (حاكِم)، و(حكيم)، و(حَكَم)، و(حكومة)، و(حَكَمَة) و(محكمة)، إلخ. وفضلا عن ذلك، فليس هذا النوع من الترتيب سهلا، ولا هو يسمح للمستخدم بالوصول إلى اللفظ الذي يبحث عنه بصورة مباشرة.
في أواسط القرن الماضي قام "المعجم الوسيط" الذي صدر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة بعملية مزاوجة بين ترتيبين، فاعتمدَ منهجاً انتقائياً يأخذ من الترتيب الألفبائي بطرَف، ومن الترتيبِ الصرفي بطرف آخَر، وجعل الأفعال أولا، وسائر الألفاظ من أسماء وأفعال وحروف تالية لها. أما الأفعال، فقد رتَّبها ترتيبا صرفياً إلى حدٍّ ما، فجعل المجرد أولا، وأتْبَعَه بالمزيد: ما كان مزيداً بحرفٍ، فما كان مزيداً بحرفين، ثم ما كان مزيداً بثلاثة أحرُف. وأما الأسماء والصفات وغيرها فقد قام باعتماد الترتيب الألفبائي فيها. ولا ريب في أنَّ اعتمادَ معيارَين مختلفَين في ترتيب عناصرِ المادة الواحدة إنما كان لأنَّ الأفعالَ أيسرُ مأخذاً بالنظر إلى انتظامها، وليس هذا في الأسماء ولا الصفات. غير أنَّ الفصلَ بين الأسماء والأفعال لا يسمحُ برؤية العلاقات الاشتقاقية بينها؛ فهو يجعلُ الاسمَ تالياً ولو كان الفعلُ مشتقاً منه؛ فيأتي الفعل (أبا) الذي يعني "صار أباً"، بعد لفظِ (الأب) الذي هو أصل اشتقاقه. كما أن ترتيب الأفعال باعتبار عدد حروف الزيادة فيها ليس ترتيبا صرفيا حقيقيا، لأنَّ ما يُسمّى بحروف الزيادة في هذه الأفعال ليس من طبيعة واحدة؛ فليست حروفُ الزيادة جميعاً زوائدَ صرفية. ولهذا يبدو المعيارُ المُعْتَمَدُ أقربَ إلى اعتماد الرسم الإملائي منه إلى اعتماد علاقات الاشتقاق بين الصيغ. وفضلا عن هذا وذاك، فإن هذا الترتيب لا يأخذ التاريخ في حسابه؛ ولهذا لم يعتمده المعجم التاريخي.
وأما التوجُّه الثالثُ الممكنُ فتوجُّهٌ تاريخي تُرَتَّبُ فيه الألفاظُ ترتيباً تاريخياً يعتمِدُ على تواريخ ظهورِها في المدوَّنة. ولم يكن ممكنا بالطبع أن يُعتمَد مثلُ هذا النوع من الترتيب في المعاجم العربية قديمِها وحديثها بسبب غياب مدوَّنة شاملة للعربية، ولكنه أصبح ممكنا في مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. وقد يبدو هذا الترتيبُ لأول وهلة بَدَهياً في معجم تاريخي يعتمدُ على مدوَّنةٍ حقيقية شاملةٍ مؤرَّخة. غير أن دون هذا الأمر صعوباتٍ أهمها ثلاث:
بيد أنَّه على الرغم من الصعوبات التي ذكرنا، قرَّر المجلس العلمي لمشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية اعتماد هذا الترتيب دون غيره؛ فقد جاء في اجتماعه الثالث: "نظرا للطبيعة الخاصة للمعجم التاريخي تقرر ترتيب جميع المداخل ترتيبا تاريخيا من الأقدم إلى الأحدث، وترتيب المعاني المتعددة تاريخيا". ويرجع هذا الاختيار لأسباب:
مرَّ إنجاز المداخل المعجمية لألفاظ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بمراحل متعددة -حتى انتهى إلى صورة مداخل محرّرة منشورة-على النحو الآتي:
حرص المعجم في مدوّنته على الشمول والإحاطة والدقة، أما الشمول والإحاطة فباستيعاب كلِّ النصوص المكتوبة المتاحة المنتمية إلى المرحلة المحدّدة، وأما الدقة فبالتحقُّق من صحة نسبة النصوص إلى أصحابها واستبعاد النصوص المشكوك في نسبتها، والتحقُّق من صحة النصوص، قدر المستطاع.
وعلى الرغم من الجهود الحثيثة لعدد من الباحثين والمؤسسات في تطوير المعالجة الآلية للغة العربية مازالت اللغة العربية تفتقر، حتى اليوم، للبرامج المهمة للمعالجة الآلية، كالمدقِّق الإملائي والمشكِّل الآلي والمحلِّل الصرفي ومحرِّك البحث المتطوِّر، وغير ذلك من البرمجيات الضرورية لتيسير معالجة اللغة العربية.
ولحاجة المعجم التاريخي لمحلِّل صرفي ناجح لإعداد الحزم الاشتقاقية لجأ المختصون إلى تطوير المحللات الصرفية المتاحة، وتطوير أدوات حاسوبية أخرى لتحليل المدونة، واستخلاص الحزم الاشتقاقية، ومن ثمّ إحالتها إلى خبراء لغويين لاستكمال تهيئتها يدويًّا وفق الضوابط المحدّدة، واستدراك الثغرات التي تركها المحلل الصرفي. ولضمان الدقة يُحال العمل إلى خبراء لغويين لمراجعته.
والهدف من هذا إعداد الحزم الاشتقاقية على هيئة أُسَر تُبنى كلُّ أسرة منها على جذر يتفرَّعُ منه عددٌ من الصيغ الصرفيّة التي هي مداخلُ فرعية تحت الجذر. ويضمُّ كلُّ مدخلٍ منها السياقات التي ورد فيها بصوره المتعدِّدة، مرتبة ترتيبًا تاريخيًّا، استنادًا إلى المدونة اللغوية التي تضمّنت كل النصوص المنشورة التي استقصتْها البيبليوغرافيا الشاملة للمرحلة.
تمثِّل هذه المرحلة أهم مستويات الصناعة المعجمية وأصعبها؛ لما يعتريها من تحدِّياتٍ ومشكلات، يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
ولتيسير الأمر على مستعمل المعجم التزمنا بالضبط التّام للنصوص والألفاظ في كل عنصر من عناصر المدخل المعجمي.
ويرتبط بما سبق توثيق النصوص من مصادرها الأصليّة المعتمدة، وهذا يقتضي البحث في بطون الكتب بطبعاتها المختلفة؛ للعثور على الشاهد ومقابلته بما ورد في الطبعات الأخرى والمظانِّ المختلفة.
وهذا يعني أن المعالج المعجميّ يقف في مواجهة مباشرة مع اللغة المستعملة، فيكون محكومًا بمنطق الواقع اللغوي وبمعطيات السياقات في تسلسلها التاريخي وتجليات معانيها الدقيقة، وفق منظومة رأسيّة أفقيّة ترصد تحوُّلات المعنى لكل بنية صرفيّة في رحلتها التاريخيّة عبر العصور، وفي امتدادها عبر النصوص المختلفة في مسارات المعنى. وفي حالات كثيرة يكون المعنى غامضًا حمًالَ أوجهٍ متعدِّدة، ولاسيما في النصوص اليتيمة -كالأبيات المفردة التي تتألف من بيت واحد أو بيتين أو من مَثَلٍ مجرّد من السياق- التي لا ترد إلا في مصدر واحد.
ومن المشكلات المتعلِّقة بالمعنى صعوبةُ تمييز المعنى المعجمي من المعنى المجازي أو المعنى السياقي، أو المعنى المستخلص من لوازم معنى اللفظ وملزوماته، وكذلك المعنى الناتج عن استعمال اللفظ وصفًا دون ذكر الموصوف، مع عدم غلبة هذا الوصف ليرقى معناه إلى مستوى المعنى المعجمي للفظ ذاته. ولا يجد المعالج بغيته في كثير من المعاجم التي تسرد عددًا كبيرًا من المعاني للألفاظ دون مراعاة لخصوصيّة المعنى المعجميّ.
وفيما يتعلّق بالتعريف قد يواجه المعالج مشكلات في صياغة التعريف بأسلوبه صياغة محكمة تفي بالمعنى المراد في الشاهد، وتراعي الخصائص الصرفيّة والدلاليّة للفظ المعرّف. ولا يمكنه أن يتجاوز هذه المشكلات إلا بتجريد المعنى وتطويقه وفق معطيات السياق؛ ليتجنّب الإخلال بالتعريف أو التزيُّد فيه، أو الوقوع في تكرار المعاني، أو الغموض والالتباس، أو ترهُّل الصياغة.
يمر إعداد المداخل المعجمية بخمس مراحل قبل الوصول إلى الصيغة النهائيّة القابلة للنشر، وهذه المراحل هي المعالجة، والمراجعة، والتدقيق، والتحرير، ومراقبة الجودة:
نظرا لخصوصية اللغة العربية الاشتقاقية والصرفية والإعرابية... وخصوصية معجم الدوحة بوصفه معجما تاريخيا غير موسوعي، ينطلق من السياقات ليرصد الدلالات، واءم القائمون على المعجم بين المعطيات العلمية النظرية، والخصوصية الذاتية للغة العربية، كما استرشدوا بالتجارب الغربية القائمة، وبقرارات المجلس العلمي التي جاءت تتويجا للنقاش الأكاديمي العميق الذي طبع اجتماعاته في ما اختلفت فيه الآراء.
وقد استغرق بناء هذا التصور المنهجي نحو عامين، 2011/2013، من النقاش، والمعالجة، والمراجعة، والنقد، والتقويم، والتجريب...أسفرت عن منهجية محكمة الأركان، واضحة الخطوات، ضُمِّنَتْ دليلا معياريا يتضمّن الضوابط العلمية والمنهجية الشاملة للمعالجة والتحرير، وقد عزّزتها قرارات المجلس العلمي.
وتجدر الإشارة إلى أن الاختيارات العلمية والمنهجية المعتمدة في معجم الدوحة، هي ترجيحات واعية للأفضل والأصح داخل دائرة الصواب، من ضمن اختيارات متعددة كانت حاضرة جميعها في جلسات النقاش، وموثّقة بالتواريخ وأرقام الجلسات في محاضر الاجتماعات.
ويمكن تلخيص الخطوط العريضة لمنهجية المعالجة المعجمية باستدعائها من الدليل، وتسويغ الاختيارات المعتمدة، كما يمكن جعل مكونات الجذاذة منطلقا للتعريف بالمنهج والاختيارات والترجيحات المعتمدة، وسنوردها، بشيء من الاختصار غير المخل لتلبية حاجة قارئ المعجم من الاستيضاحات والاستفسارات التي قد تعنّ له أثناء تصفحه مداخلَ المعجم.
المعالجة المعجمية
نظرا لاختلاف أحوال اللفظ المراد معالجته، بين الاسمية والفعلية والوصفية، واختلاف الأسماء والصفات بين الإفراد والتثنية والجمع بأنواعه، واختلاف أحوال الفعل بين الماضي والمضارع والأمر، المسند إلى أنواع الضمائر، واعتراء كلِّ قسم أحوالٌ تصريفية تغير من هيئته الصرفية، وتداخل بعض الأوزان، واختلاف الحركات التي قد تؤثِّر في المعنى... فقد تطلبت معالجتُه ضوابطَ علمية ومنهجية تهدف إلى توحيد العمل وتنميطه. من أجل هذا التزمنا بالضوابط الآتية في التعامل مع اللفظ وفق تلك الأحوال:
1-ضوابط معالجة الوحدات المعجمية
انطلاقا من الطبيعة الخاصة لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ومن الاختيارات العلمية والمنهجية التي اعتمدتها مؤسسة المعجم، بُني مدخل معجمي واحد لكل وحدة معجمية من وحدات اللغة العربية حملت معنى جديدًا، ووردت في سياق استعمالي، منسوبٍ بالتحقيق أو الترجيح إلى قائل معيّن، يمكن تأريخه بتاريخ محدد أو تقريبي، وثبتت أسبقيتها التاريخية على غيرها في الاستعمال.
يتقدم معالجة الوحدات المعجمية بيانٌ لسماتها المميزة، بوصفها من مقدماتِ ما على المعالج أن يقف عليه:
نظرا لما للوسم من أهمية في بيان صفات المدخل الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، إلى جانب إسهامه في تحديد معنى اللفظ، وكشف تطوّره الدلالي، وإزالة التباسه بغيره، أولينا مسألة الوسم عناية خاصة، واخترنا من الوسوم الكثيرة والمختلفة ألصقَها ببنية اللفظة ودلالتها، واستبعدنا المعلومات الصرفية والنحوية التفصيلية التي تثقل المعجم، وتقوده إلى الموسوعية التي أعلن منذ البداية أنه ليس على نهجها، من قبيل التذكير والتأنيث، والتعريف والتنكير، والإفراد والجمع في الأسماء، والتمام والنقصان، والجمود والتصرف، والصحة والاعتلال في الأفعال... وبناء عليه، اكتفينا بالوسوم الآتية، وفق طبيعة المداخل:
وُضعت مجموعة من القواعد والضوابط لمعالجة مداخل المعجم، تختلف باختلاف طبيعة المدخل المتراوحة بين الاسمية والوصفية والفعلية...
الأسماء والصفات:
وُضع المدخل المعجمي إذا كان اسما أو صفة في صورة المفرد المذكر، وعُدُّ المؤنث والمثنى وجمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم، وجمع التكسير، صورًا تصريفية له، وعولجت تبعًا لتغير المعنى. واستثني من ذلك: المثنى بالتغليب، والملازم للتأنيث، واسم الجمع، واسم الجنس، إذ وُضع لكل منها مدخل مستقل، ووسم بوسمه المناسب.
الأفعال:
وُضعَ المدخل المعجمي إذا كان فعلا في صيغة ماضيه المسند إلى ضمير الغائب، أيًّا كانت صورته التصريفية التي وردت في الشاهد، وعُدّ المضارع المبني للمعلوم، والمبني للمجهول، وفعل الأمر، المسندة إلى مختلف الضمائر، صورا تصريفية للفعل الماضي المجرد المسند إلى ضمير الغائب.
المباني:
اكتفينا من المباني بجموع التكسير لأهميتها وكثرتها وعدم قياسيتها، وباللغات التي اختلفت بسببها بنية الكلمة.
الأدوات:
وُضعت للأدوات مداخل معجمية مستقلة، مع الاقتصار على إيراد أول استعمال لها، وتعريفها وَفْقَ معانيها الأصليَّة والوظيفيَّة.
المركّبات:
وُضعت المركبات، والمتلازمات اللفظية والإتباعية في مداخل مستقلة، ويُعالج اللفظ المركب بوصفه كتلة معجمية واحدة يعرفُ فيه المعنى الكلي للتركيب، ويوضع التركيب في مدخل جزئه الأول مع اعتماد نظام الإحالة والربط في عجزه.
الألفاظ الأعجمية:
وُضعت الألفاظ الأعجمية في مداخل مستقلة، في موضعها من ترتيب مداخل المعجم، دون تعسُّفٍ في إلحاقها بجذور العربية التي تقترب من صورتها.
ج.الشواهد
لقد حرص معجم الدوحة على الاستشهاد لإثبات الاستعمال وذلك بإدراج شاهد لكل معنى جديد أو مبنى جديد، على أن يكون الشّاهد تامًا واردا في سياق حي/ استعمالي، يساعد على فهم معنى اللفظ في سياقه، واستبعد ما سيق من الألفاظ للتمثيل على البنيات الصرفية والافتراضية،... وقد عُدّت ألفاظ كتاب العين المُعرّفة شواهد إذا حملت معاني جديدة، لوقوعه أولا داخل المرحلة الأولى، وتضمنه لألفاظ اللغة العربية المستعملة في زمانه ثانيا، ولقربه من مرحلة الجمع والاستشهاد والفصاحة ثالثا.
وقد ارتأى معجم الدوحة التقديم للشواهد التي اعتراها غموض واستغلاق بما يساعد على تجلية إبهامها واستكشاف معناها، واشترط أن يكون التقديم مختصرًا، مناسبًا لجميع المستَوَياتِ، يمكِّنُ المتلقِّي من فَهْمِ الكلمة المستعملةِ في سياقها.
د.التأريخ
اعتنى معجم الدوحة، بوصفه معجما تاريخيا، بتحديد الزمن الذي استُعمِل فيه اللفظ على وجه الدقة أو التقريب. ونظرا لما يكتنف المرحلة الأولى، من صعوبات في التأريخ كما تقدم، بذل القائمون على المعجم جهودا كبيرة في التأريخ للألفاظ وسياقاتها ومستعمليها، حيث شكلت لجنة علمية لتلك الغاية. وقد اعتمدنا محددين للتاريخ يصاحبان المداخل المعجمية:
ه.المستعمل
اعتمدنا نسبة كل شاهد إلى مستعمله، وأثبتنا اسم المستعمل بعد تنميطه وضبطه والتحقق منه، وما خالف ذلك وضعنا له في خانة اسم المستعمِل ما يأتي:
و. استنباط المعنى
يعدُّ استنباط المعنى جوهر العمل المعجمي، ويكتنف عملية تحديده غموضٌ والتباسٌ، ولا سيما في شواهد الشعر، عُني المعجم برصد المعاني الحقيقية، والمستقر في الاستعمال من المعاني المجازية، مع الاستئناس، عند استنباط المعنى، بالمصادر الأساسية في الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه السياق أو اللفظ.
ز.صياغة التعريف
ارتأى معجم الدوحة تحرير التعريفات وصياغتها معتمدا على خبرة المعالجين والخبراء لديه، مراعيا في ذلك الاختصار، والدقة، والوضوح، مع الابتعاد عن النقل الحرفي للتعريفات الواردة في المعاجم والتفاسير وكتب شروح الحديث والشعر وغيرها، وبوجه أخصّ التعريفات المخالفة للضوابط المعتمدة، كالتعريف بمعروف، والتعريف بالمرادف وبالضد، وبالعلة، وبالتعريف بالأشد غموضا واستغلاقا... وأباح الاقتباس المحدود لتعريفات بعض الألفاظ كالنباتات والحيوانات ... وتعريف المصطلحات.
2.معالجة المصطلحات
نظرا لاعتبارنا الدلالة الاصطلاحية محطة من محطات التطور الدلالي للفظ، توجهت العناية إلى بناء مداخل للمصطلحات العلمية، وأخضعنا معالجة المصطلحات للمنهجية المتبعة في المعجم مع مراعاة خصوصيتها المُحدّدة في الدليل المعياري، واعتبرنا مصطلحا كلَّ لفظ يدلّ على مفهوم مخصوص في نص من نصوص العلم عند أهل علم من العلوم؛ واقتضى تعريفا مفهوميّا مختلفا عن التعريف اللغويّ العامّ.
يعتمد معجم الدوحة التاريخي مبدأ تأثيل الألفاظ غير العربية: الدخيلة والمعربة والمقترضة، عن طريق فحص تاريخها وتطورها وأصولها غير العربية بإرجاعها إلى تلك الأصول، وقد أسند الأمر إلى لجنة من المتخصصين، للعودة بها إلى أصولها الفارسية أو اليونانية أو الهندية... لما لذلك من قيمة لغوية وحضارية.
نقصد بالتحرير المعجمي ضبط المادَّة المُعجميَّة على نَسَقٍ واحدٍ، يُحافظُ على تجانُس المعلومات المُعجميَّة وانتظامِها. وتأتي مهمة التحرير بعد الفراغ من المعالجة والمراجعة والتدقيق لمداخل المعجم لتوحيد أنساقِ صِياغةِ المداخل وفقَ منهجيَّة معجم الدّوحة التّاريخيّ؛ وتحديد مُوَاضَعاتِ معجم الدّوحة التّاريخيّ في الضَّبْط، والإِملاء، والتّرقيم؛ وبيان الرّموزِ والمختصراتِ المعتمدةِ في المعجم.
وقد فُصِّلَ القولُ في ضوابط التحرير في موضعها من الدليل المعياري، لتمكين قارئ المعجم من تصورها واستيعابها.
تاسعا: الجهود السابقة في التأريخ اللغوي وفي إنجاز المعاجم التاريخية
إن دوافع صناعة معجم تاريخي ومتطلباته وأدواته قد توافرت خلال القرن التاسع عشر، مما حدا بعلماء اللغة الألمان وعلماء اللغة البريطانيين إلى الإقدام على الشروع في صناعة معجم تاريخي للغتيهما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد استغرق إنجاز هذين المعجمين بين ثمانين ومئة عام لكل منهما.
على الرغم من أن المعجم التأثيلي والمعجم التاريخي يقومان على بحوث علم اللغة التاريخي، فإنهما مختلفان من حيث النطاق، لأن كل معجم تاريخي هو معجم تأثيلي بالضرورة، ولكن ليس كل معجم تأثيلي معجماً تاريخياً. فالتأثيل فرع من فروع علم اللغة التاريخي يقتصر على دراسة تاريخ الألفاظ. أما المعجم التاريخي فهو أعمُّ وأشمل، لأنه يُعنى بتاريخ اللغة وعلاقاتها بغيرها من اللغات، وتحليل جميع التغيرات والتبدلات والتحولات التي خضعت لها في مبناها ومعناها واستعمالاتها ووظائف الألفاظ النحوية، مدعمة بشواهد مؤرخة وموثَّقة.
ويمكن القول: إن الشواهد الموثقة المؤرَّخة التي ترد بعد كل تغيّر في اللفظ أو المعنى أو الاستعمال هي الفرق الأساسي، بين المعجم التأثيلي الذي يخلو منها، وبين المعجم التاريخي الذي يحرص على إيراد أقدم شاهد مسجّل ظهر فيه اللفظ أو المعنى الجديد أول مرة، وآخر شاهد ظهر فيه اللفظ أو المعنى قبل أن ينقرض، وأفضل شاهد على استمرار اللفظ أو المعنى في عصور اللغة المختلفة، مع إضافة التاريخ الذي سُجِّل فيه كل شاهد، والمصدر الذي اقتُبس منه.
بدعوة من دار نشر فايرمان بمدينة لايبزك، بدأ الأخوان غريم: يعقوب (1785ــ 1863)، وفيلهلم (1786ــ 1859)، سنة 1838م العمل على تصنيف معجم ألماني على أسس تاريخية، بعد أن أعدّت الدار مقراً متسعاً للمشروع في برلين وزودتهما بالعدد الكافي من المساعدين. وكان الغرض الرئيس لهذا المشروع تبيان الأصول المشتركة للهجات الألمانية المختلفة، بهدف دعم الآمال الرامية إلى توحيد الولايات الألمانية في دولة واحدة.
كانت خطة الأخوين ترمي إلى إنتاج المعجم خلال 10 سنوات، ولكن الصعوبات التي واجهتهما في جمع مصادر مدونة المعجم أدت إلى تأخير المشروع. فقد صدرت في حياتهما 8 مجلدات من المعجم سنة 1854، تضم الحروف من A إلى F، ومقدمة ضافية وببليوغرافيا المصادر. وكان يعقوب غريم يعمل على مادة Frucht عندما وافته المنية.
بعد وفاتهما، تولى الإشراف على المعجم مساعداهما العالمان رودولف هِلدبراند R. Hildebrand وكارل فايغاند K. Weigand وفي سنة 1867 طلب بسمارك von Bismarck رئيس وزراء مملكة بروسيا، الذي تحققت الوحدة الألمانية على يديه سنة 1871 من الدولة تمويل المشروع. وانضم للإشراف على المشروع عالم اللغة مورِتس هَين الذي دعا طلاب الدراسات العليا في الجامعات الألمانية إلى تحرير مواد من المعجم بإشرافه، وهكذا أصبح المشروع وطنياً.
تعاقبت على مواصلة العمل في المعجم أجيال من العلماء والمؤسسات العلمية حتى اكتمل سنة 1961 وصدر في 32 مجلداً تضم 330.000 مدخل. ويضم هذا المعجم ألفاظ اللغة الألمانية الفصحى (العليا) الحديثة منذ سنة 1450 إلى سنة 1832، وتتناول مواده تأثيل الألفاظ، وتغيّر المعاني، والمترادفات، وغرائب الاستعمال، والفروق اللهجية، مع شواهد مستقاة من المصادر الأساسية الموثّقة.
وفي سنة 1971 صدر المجلد الـ 33 الذي يشتمل على 25.000 مدخل إضافي. وفي سنة 2004، أطلق مشروع تبنته أكاديمية برلين باراندنبورغ للعلوم والإنسانيات وجامعة غوتنغن genentöG لتحديث الأجزاء الأقدم من المعجم في ضوء المعايير الأكاديمية الحديثة.
بمبادرة من الجمعية الفيلولوجية البريطانية، بدأ العمل سنة 1857 في تصنيف معجم تاريخي وصفي للغة الإنكليزية ( Oxford English Dictionary)، يتتبع التغيّرات التي طرأت على اللغة الإنكليزية منذ حوالي سنة 1250، وهو تاريخ المراجع المطبوعة المتوافرة لدى الجمعية التي كانت تتوق إلى إصدار المعجم كاملاً خلال 10 سنوات. واعتمد تحرير المعجم على الشواهد التي جمعتها الجمعية الفيلولوجية أو القراء المتبرعون. وتبيّن هذه الشواهدُ المعاني المختلفة للفظ الواحد في العصور المتعاقبة واستعمالاته المتعددة. ولهذا فإن هذا المعجم لا يمتلك مدوّنة نصية بل مدونة شواهد.
في سنة 1884، أخذ المعجم يُنشر على شكل فصلات غير مجلدة تحمل عنوان " معجم إنكليزي جديد على مبادئ تاريخية، يستند بصورة رئيسية إلى المواد التي جمعتها الجمعية الفيلولوجية". واكتمل صدور المعجم سنة 1928، ونُشر مجلداً في 10 مجلدات سنة 1933 بعنوان " معجم أكسفورد للغة الإنكليزية".
وصدرت طبعته الثانية سنة 1989 في 20 مجلداً. وصدرت طبعته الإلكترونية سنة 1988. وتتوافر هذه الطبعة على الشابكة (الإنترنت) منذ سنة 2000. وابتداء من سنة 2005 أصبح المعجم يضم أكثر من 301.000 مدخل رئيسي. وتشتمل هذه المداخل على الألفاظ المعيارية، وعلى الألفاظ اللهجية والدارجة كذلك، وتهتم بشرح التطورات التي طرأت على معاني اللفظ واستعمالاته، حتى تلك التي لم تعدْ مستخدمة اليوم.
تأخر ظهور المعجم التاريخي الفرنسي ( Dictionnaire historique de la langue française) كثيرا، فلم يرَ النور إلا في أواخر القرن العشرين الميلادي؛ إذ نُشرت الطبعة الأولى منه عام 1992، ثم أعيدت طباعته مرات عديدة وبمجلدات مختلفة، وصدرت منه نسخة الكترونية إلى جانب النسخ الورقية. وقد أشرف على هذا المعجم آلان رِيْ Alain REY الذي يشرف على تحرير معاجم مؤسسة روبير Robert منذ أكثر من ستين عاما.
بيد أن الأعمال التمهيدية لهذا المعجم التاريخي في الفرنسية كثيرة وقديمة؛ فقد اعتمد هذا المعجم على المعاجم والدراسات التأثيلية التي سبقته، ومنها:
وربما كانت هذه الأعمال الكثيرةُ سببا من أسباب تأخر ظهور المعجم التاريخي للغة الفرنسية؛ إذ كانت المعاجمُ اللغويةُ الفرنسية العامةُ تأخذُ البعدَ التاريخي في حسابها، فتؤرِّخ للفظِ ولدلالاته، فتُغني بذلك إلى حدِّ كبير عن الحاجة إلى معجم تاريخي، ولكن هذه الأعمال التي أخَّرت صدوره كانت ضروريةً له؛ إذ كان إنجاز معجم تاريخي للغة الفرنسية بدون هذه الأعمال التمهيدية "ضربًا من الجنون"، على حدِّ تعبير مقدمة هذا المعجم.
في هذا المعجم الفرنسي الذي يتناول ألفاظ اللغة الفرنسيةَ من عام 842م حتى أواخر القرن العشرين، ثلاثُ خصائص تميزه من غيره من المعاجم التاريخية:
تكمن أهمية هذا المشروع، في قِدم اللغة العبرية وصعوبة توافر مصادرها لأنها كانت شبه منقرضة، وفي اعتماد هذا المشروع من البداية على استخدام الحاسوب.
تأسست أكاديمية اللغة العبرية سنة 1953، وكان الهدف من إنشائها العمل على إغناء اللغة العبرية بالألفاظ، لتكون اللغة الرسمية لدولة جديدة يتكلم سكانها لغات عديدة وينتمون إلى ثقافات مختلفة. بيد أن الأكاديمية قررت أن يكون مشروعها الأول والأهم تصنيف معجم تاريخي للغة العبرية، وبدأت العمل فيه سنة 1955. وقد استغرق جمع المصادر وبناء المدونة النصية للمعجم حوالي 60 عاماً.
يقوم المعجم على النصوص العبرية المكتوبة في ثلاثة عصور:
وتتكون مصادره من الكتابات الرابانية للتوراة والتلمود، ولفافات البحر الميت، ومخطوطات "جنيزة" بالقاهرة التي تتكون من حوالي 300,000 قطعة مخطوطة عُثِر عليها في كنيس يهودي في الفسطاط بالقاهرة القديمة، وتغطي الفترة من 870 م إلى القرن 19، وهي مكتوبة بعدّة لغات: عبرية وعربية وآرامية، على أوراق البردي والقماش والورق العادي، ومحفوظ معظمها الآن في جامعة كمبردج.
في سنة 1963، انتهت الأكاديمية من جمع مصادر المعجم ونشرتها في " كتاب المصادر".
في سنة 1982، نشرت الأكاديمية مادة نموذجية للمعجم مكونة من 88 صفحة للجذر الثلاثي ( ערב) ونشرته في مجلتها " لساننا".
في سنة 2010، أدمجت الأكاديمية قاعدتيها النصيتين: قاعدة النصوص من الفترة التوراتية إلى 1750م، وقاعدة النصوص الحديثة من سنة 1750م إلى اليوم، في قاعدة نصية واحدة تشتمل على نصوص من 4300 مصدر، وتضم 20 مليون كلمة، وتشتمل على 54807 مدخل: منها 14592 اسم، و13979 فعل، والباقي أسماء أعلام وأرقام وحروف.
في سنة 2005، بدأت الأكاديمية تحرير مواد المعجم، وفي سنة 2010، فتحت هذه القاعدة للجمهور. فالقارئ يضع الجذر في خانة السؤال، وتزوده القاعدة بجميع العبارات التي ترد فيها مشتقات ذلك الجذر من القديم إلى اليوم.
اقترض العرب القدامى ألفاظاً عديدة من اللغات التي كان لشعوبها علاقات تجارية أو اجتماعية بهم، كالفارسية، واليونانية، واللاتينية؛ ووردت بعض هذه الألفاظ المقترَضة في القرآن الكريم مثل كلمات: أباريق، وإستبرق، وزنجبيل، وفردوس، ومشكاة... وقد أولت المعجمية العربية-منذ أن أرسى الخليل بن أحمد (ت 175هـ)، في القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي، تقاليدها في معجمه الرائد "العين"- شيئاً من العناية بالتأثيل، في حدود أهدافها، المتمثلة أساساً في مساعدة مستعمل المعجم على فهم غريب القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. غير أن القدماء كانوا يحصرون مفهوم الفصاحة العربية جغرافيا في جزيرة العرب وتخومها، وزمانيا في عصر الاحتجاج، وموضوعياً في القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وكلام العرب الفصحاء، وشعر فحول الشعراء. أما المعجم التاريخي الحديث فيوسِّع مفهوم الفصاحة العربية ليشمل جميع ما سُجِّل باللغة العربية الفصحى في جميع الأزمنة، وفي جميع أنحاء انتشارها، وفي جميع الموضوعات.
وقد دأبت المعاجم العربية التراثية على الإشارة إلى الكلمات التي دخلت العربية من اللغات الأجنبية، كمعجم " العين" للخليل بن أحمد (ت 175هـ)، و" جمهرة اللغة" لابن دريد (ت 321هـ) الذي أفرد باباً فيه سماه " باب ما تكلمت به العرب كلامَ العجم حتى صار كالعربية"، ومعجم " تهذيب اللغة" للأزهري (ت 370هـ)، و " الصحاح" للجوهري (ت 933هـ)، و" التكملة" للصاغاني (ت650 هـ).
وفي القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، اضطلع أبو منصور الجواليقي (ت640 هـ) بجمع تلك الكلمات الأجنبية الدخيلة من المعاجم المتوافرة في زمانه، ورتّبها في معجم تأثيلي عنوانه " المعرّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم".
لقد نزل القرآن الكريم بلغة عربية فصحى مشتركة بين اللهجات العربية المتنوعة؛ فكان هدف علماء اللغة والمعجميين العرب تيسير فهم القرآن الكريم وتقعيد اللغة العربية المشتركة لتكون لغة تواصل وعمل للأمة الإسلامية الواحدة. وفي ضوء مبدأ نفعية العلم في الإسلام، لم يكن من المفيد البحث في اللهجات العربية وتطوّرها والتغيرات التي طرأت عليها عبر الزمن، بل انصبت البحوث على اللغة الفصحى المشتركة، واختصت المعاجم بها كذلك.
وهكذا لم تكن ثمة حاجة ماسة لمعجم تاريخي للغة العربية، ولم يكن لدى علماء اللغة موقف إيجابي من التغيُّر اللغوي، بل عدّه معظمهم نوعاً من " لحن العوام"، وألّف بعضهم كتباً فيه. ولهذا لم يسعَ القدماء إلى تصنيف معجم تاريخي للغة العربية.
ومع ذلك، فإن المعاجم العربية، في جميع العصور، اشتملت على عناصر تاريخية أهمها:
خلال عصر النهضة العربية من منتصف القرن التاسع عشر إلى الثلث الأول من القرن الميلادي العشرين تقريبا، راودت البلدانَ العربية فكرة الاستقلال والوحدة، خاصةً بعد أن حققت الولايات الألمانية وحدتها سنة 1871م، على الرغم من الفوارق الدينية والثقافية بينها، وبعد أن أنجزت الولايات الإيطالية وحدتها سنة 1871م كذلك. وفي كلٍّ من هاتين الوحدتين، كانت اللغة المشتركة تقريباً، هي العنصر الأساس لبناء الوحدة.
بعد استقلال معظم الدول العربية، تأسست المجامع اللغوية التي كان أوّلها المجمع العلمي العربي في دمشق: مجمع اللغة العربية بدمشق حالياً (1921م)، ومجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة، وهو مجمع اللغة العربية بالقاهرة حاليا (1932م)، والمجمع العلمي العراقي (1947). وبدأ المفكرون العرب يشعرون بضرورة تأليف معجم تاريخي للغة العربية بوصفه أداة مهمة لخدمة البحث العلمي، وتنمية اللغة المشتركة، وتبيان وحدة الاستعمالات اللغوية في مختلف الأقطار العربية، ما يؤكّد الروابط القومية بينها، ويعزِّز فكرة انتمائها إلى أمّة واحدة. وقَوِيَ هذا الشعور بعد صدور أجزاء من (المعجم التاريخي الألماني) للأخوين غريم، وصدور (معجم أكسفورد للغة الإنكليزية) كاملاً سنة 1928.
ولهذا كلّه، بدأ التفكير في إنتاج المعجم التاريخي المنشود للغة العربية، وقد تعددت المحاولات والجهود، ونعرض فيما يلي بعض أهم هذه الجهود.
عندما أُسس مجمع فؤاد الأول للغة العربية، نصّـت المادة الثانية من أهدافه على " أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثاً دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغيُّر مدلولاتها...".
وكان أحد أعضائه الأوائل المستشرق الألماني أوغست فيشر (1865 ـ 1949م) الذي كان يُدرّس اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية في برلين (1896-1900م) ثم شغل بعد ذلك كرسي أستاذ اللغات الشرقية في جامعة لايبزغ. وفي أثناء عمله، وضع خطة لمعجم عربي جديد، على منهج علمي حديث، وليس نقلاً من المعاجم القديمة؛ فأخذ يجمع -هو وطلابه-شواهد من مراجع عربية معظمها ينتهي عند نهاية القرن الثالث الهجري، ويدوّنها في مجذّة تُفرد لكل كلمةٍ ومعنى وتركيبٍ جذاذةً تشتمل على الشاهد. وعرض مشروعه على مؤتمرات المستشرقين في بازل (1907م) وكوبنهاكن (1908م) وأثينا (1912)، فلقي القبول والتشجيع دون الدعم البشري والتمويل.
وعندما أصبح فيشر عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة عند تأسيسه، عرض مشروعه عليه، فلقي الترحيب من المجمع أملاً في أن يكون معجمه تجسيداً للمادة الثانية من أهداف المجمع. وهكذا انتقل فيشر إلى القاهرة سنة 1936 حاملاً معه جذاذاته وزوّده المجمع بما يلزم من المساعدين اللغويين والنفقات. وأمضى حوالي أربع سنوات في جمع النصوص المكمّلة، وتصنيفها، وتدوين الجذاذات اللازمة، ولكنه اضطر إلى العودة إلى ألمانيا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1940، ولم يرجع إلى القاهرة بعد انتهاء الحرب سنة 1945 بسبب المرض الذي أقعده، ثم وفاته. وتشتت جذاذاته بين مصر وألمانيا، وضاع الكثير من المواد التي دوّنها. ولم يجد المجمع من مشروع المعجم سوى المقدمة (34 صفحة) والمواد من أول حرف الهمزة حتى كلمة "أبد" (53 صفحة)، فنشرهما سنة 1387هـ / 1967م في كتاب عنوانه: أ. فيشر. "المعجم التاريخي، القسم الأول من أول حرف الهمزة إلى أبد".
يقول فيشر في مقدمته: إن كل كلمة في المعجم ينبغي " أن تعرض على حسب وجهات النظر السبع التالية: التاريخية، والاشتقاقية، والتصريفية، والتعبيرية، والنحوية، والبيانية، والأسلوبية".
ومعجم فيشر يستند إلى منهجية علمية تعتمد على اقتباس الشواهد من المصادر الأصلية ومعالجة المداخل طبقاً لآخر ما توصلت إليه صناعة المعجم الحديثة؛ ولكنه ليس معجماً تاريخياً، لسببيْن رئيسيْن:
بعد تعثّر مشروع معجم فيشر، اتجهت جهود مجمع اللغة العربية بالقاهرة إلى إصدار "المعجم الوسيط" (1960م)، والشروع في إعداد "المعجم الكبير" الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1967.
ويرى بعض الباحثين المجمعيين أن " المعجم الكبير" يُغني عن تأليف معجم تاريخي جديد. ويستند هؤلاء الباحثون إلى الخصائص التاريخية التي يتحلّى بها "المعجم الكبير"، وأهمها:
وبغض النظر عن إيماننا بأن من حقّ أي لغة أن تتوافر لها معاجم تاريخية متعددة متنوعة من حيث أغراضها ومنهجياتها، فإن "المعجم الكبير" ليس معجماً تاريخياً، لسببين هما:
ومما يعزز رأينا في أن "المعجم الكبير" ليس معجما تاريخياً، ما ورد في مقدمته بقلم السيد رئيس المجمع:
"وقد قرر المجمع، أول ما قرر، حين أراد الأخذ في وضع هذا المعجم أنه لن يكون معجماً تاريخياً للغة العربية، لأن المعجم التاريخي يحتاج إلى أعمال تمهيدية لم يؤخذ بها بعد...".
دعا الشيخ عبد الله العلايلي (1914 - 1996م) في كتابه "مقدِّمة لدرس لغة العرب، وكيف نضع المعجم الجديد" إلى تصنيف أنواع متعددة من المعاجم من بينها المعجم التاريخي، أو المعجم النشوئي، الذي يبحث في نشوء المادة، وتطوُّراتها الاستعمالية، وتراوحها بين الحقيقة والمجاز... ويتناول المفردات من حيث هي عربية عريقة أم تنظر إلى مصدر غير عربي".
وفي ضوء دعوته هذه، صنّف العلايلي معجمه "المرجع" الذي صدر جزؤه الأول سنة 1963؛ وحرص فيه على إرجاع كل دلالة من دلالات اللفظ إلى عصر من العصور أو فترة من فتراتها طبقاً لتقسيمه لفترات اللغة العربية. فمثلاً قسم المدة من سنة 132 هـ إلى 922 هـ على 6 فترات هي: فترة النفوذ الفارسي، فترة النفوذ التركي، فترة النفوذ البويهي، فترة النفوذ السلجوقي، فترة النفوذ المغولي، فترة النفوذ المملوكي؛ ونظر إلى دلالة كل لفظ في ضوء الفترة التي ظهر فيها. وفرّق بين الدخيل بتعريب قديم، وهو الذي يرجع إلى ما قبل القرن السابع عشر الميلادي، وبين الدخيل بتعريب حديث وهو الذي يبدأ من القرن السابع عشر الميلادي. كما ميّز بين المولَّد القديم الذي يرجع إلى ما قبل القرن السابع عشر الميلادي، وبين المولَّد الحديث الذي يبدأ بعد النهضة الأوربية الحديثة. ورتّب معاني اللفظ من الأقدم إلى الأحدث.
وهذا جهد يذكر ويشكر، ولكن معجم "المرجع" لا تنطبق عليه مواصفات المعاجم التاريخية، وأولها أن تكون مواده مستقاة من مدوّنة نصية تشتمل على نصوص أصلية، وأن تكون دعامة المعجم الأساسية الشواهد المؤرَّخة والموثقة. ومواد معجم "المرجع" مأخوذة من المعاجم السابقة، ولم يعتن بالشواهد.
انطلق المشروع التونسي بمبادرة من كلية الآداب بتونس، ومركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، وجمعية المعجمية العربية بالجمهورية التونسية. عقدت الجمعية ندوتها العلمية الدولية الثانية في تونس سنة 1989 حول موضوع المعجم التاريخي، وأوصت هذه الندوة بـ " ضرورة البدء في وضع معجم عربي تاريخي، لأنه يمثّل ذاكرتنا اللغوية والثقافية والحضارية التي تضبط رصيدنا الفكري، ويكون مرجعنا اللغوي والعلمي...".
وبدأ العمل بتمويل من الحكومة التونسية في شباط/ فبراير 1990م. وقام العاملون في المشروع بجمع شواهد من 90 شاعراً جاهلياً في الفترة من سنة 200م إلى سنة 609م في جذاذات بلغ تعدادها 58023. ولكن المشروع توقّف بعد مدة. ثم استؤنف العمل به سنة 1996. وظل المشروع يتعثّر بسبب تقطّع التمويل، وعدم تفرّغ العاملين للمشروع، وأخيراً توقف المشروع بصورة شبه نهائية، بسبب عدم توافر المال وبذريعة بدء مشروعات عربية أخرى لتأليف معجم تاريخي للغة العربية.
بعد تردد طويل، وافق اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية الذي يضمُّ حاليا مجامع: دمشق، والقاهرة، وبغداد، وعَمّان، والرباط، والخرطوم، والجزائر، والقدس، وطرابلس الغرب، والشارقة، على اقتراح تقدمت به مجامع بغداد ودمشق وعمّان، بتبني مشروع إعداد المعجم اللغوي التاريخي، وذلك في اجتماع الاتحاد بالقاهرة، مقرّ الاتحاد، سنة 1998م. ولكن الاتحاد في اجتماعه التالي سنة 1999م قرر تأجيل النظر موقتاً في المشروع، نظراً لما يتطلبه من إمكانات بشرية ومادية هائلة. ثم عاد الاتحاد سنة 2001م إلى الموافقة على البدء في المشروع، وألَّف لجنةً لوضع خطة شاملة لتنفيذه. ولم تجتمع هذه اللجنة حتى سنة 2004م.
وخلال السنتين التاليتين عقدت اللجنة عدة اجتماعات، وضعت فيها نظاماً أساسياً لـ " هيئة المعجم التاريخي للغة العربية"، ودليلاً للمشروع، وخطة علمية لتنفيذه، ومنهجاً لتدريب العاملين فيه، ودراسة عن المدونات المتوافرة في الوطن العربي للاستفادة منها في إنشاء مدونة المشروع. كما أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي يتولى رئاسة الاتحاد، خصص مؤتمره العام في دورته الثانية والسبعين سنة 1427هـ / 2006م لموضوع "المعجم التاريخي للغة العربية". وفي أواخر السنة نفسها، عقد الاتحاد ندوة حول الموضوع ذاته بإمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية، حضرها حاكم الشارقة الذي تبرّع بتكاليف المشروع برمته. وقد شكّلت الهيئة مجلساً علمياً لها شرع في اختيار المصادر الأساسية والثانوية للمدونة، وبَنَتْ مقراً للمشروع في القاهرة.
يهدف هذا المشروع إلى حصر المفاهيم العلمية، وترتيب المصطلحات التي تعبّر عنها ترتيباً معجمياً، وعرض معانيها عرضاً تاريخياً، لتبيان التطور الذي طرأ على دلالاتها واستعمالاتها منذ ظهورها إلى اليوم.
وفي إطار هذا المشروع، عُقدت ندوة علمية دولية حول "المعجم التاريخي: قضاياه النظرية والمنهجية والتطبيقية" بمدينة فاس سنة 2010م، ونُشرت أعمالها في مجلدين سنة 2011.
وقد أُنجز من المشروع:
يمكن أن نضيف أخيرًا إلى هذه الجهود في التأريخ للغة العربية ومصطلحاتها دراسات ومعاجم ومشاريع معاجم متفرقة كتبت بالعربية وبغيرها من اللغات، ربما يكون من أهمها المعجم التاريخي للغة العلمية العربية ( Lexique historique de la langue scientifique arabe) الذي نُشر بالفرنسية في العام الماضي عن دار أولمز تحت إشراف رشدي راشد، وشارك في إعداده عشرة من الباحثين المختصين بالتراث العلمي العربي، وهو يقع في أكثر من تسع مائة صفحة مع مقدمة ضافية عن الترجمة من اليونانية إلى العربية وعن نشأة المصطلحات العلمية العربية، ولا سيما مصطلحات الرياضيات والفلك، وتطور هذه المصطلحات حتى العصور الوسطى.
[1] شارك في هذه المقدمة كتابةً لبعض عناصرها أو مراجعةً له، كلٌّ من الأساتذة الخبراء التالية أسماؤهم (مع حفظ الألقاب):
إبراهيم بن مراد، حسن حمزة، رشيد بلحبيب، رمزي بعلبكي، عبد السلام المسدي، عبد العلي الودغيري، عز الدين البو شيخي، علي القاسمي، محمد حسان الطيان، محمد الخطيب، محمد العبيدي، المعتز بالله السعيد، مقبل التام الأحمدي، نهاد الموسى. وحررها ونسق فقراتها: حسن حمزة ورشيد بلحبيب.